في حادثة أثارت قلقًا واسعًا وتساؤلات حادة حول الجاهزية الفنية والانضباط العسكري، سقطت مروحية حربية خفيفة، في مياه البحر الأبيض المتوسط قبالة شواطئ مدينة رأس البر التابعة لمحافظة دمياط شمالي القاهرة، دون أن تصدر السلطات المصرية أي بيان رسمي حتى لحظة إعداد هذا التقرير.

المروحية سقطت في منطقة شاطئ 63 تحديدًا، وهو أحد الشواطئ المفتوحة التي تشهد توافدًا كثيفًا من المصطافين، وقد رصد مواطنون اللحظات الأولى التي تلت الحادثة، وانتشرت على مواقع التواصل مقاطع مصورة أظهرت حالة من الذعر والفوضى، وسط محاولات من قوات الشرطة والإسعاف والدفاع المدني لتأمين المكان.

غياب الشفافية يثير الشكوك

رغم مرور ساعات على سقوط المروحية، لم تصدر أي جهة رسمية، سواء من القوات المسلحة أو من وزارة الدفاع المصرية، توضيحًا حول نوع المروحية، سبب الحادث، أو مصير طاقمها، ما فتح الباب أمام سيل من التكهنات.

وفرضت السلطات طوقًا أمنيًا محكمًا حول الموقع، ومنعت المصورين والصحفيين من الاقتراب، كما أمرت بإخلاء الشاطئ من الزوار وسط تشديد أمني ملحوظ.

هذا التعتيم الإعلامي ليس غريبًا في السياق المصري، حيث تتعامل الدولة في عهد عبد الفتاح السيسي مع الحوادث العسكرية بنفس الأسلوب القائم على التكتم، والتهرب من المحاسبة، وهو ما يتعارض مع مفاهيم الشفافية والمحاسبة التي يُفترض أن تسود في إدارة القوات المسلحة، خاصة في وقت تتعاظم فيه ميزانيتها ونفوذها داخل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

تكرار الحوادث العسكرية.. هل من محاسبة؟

الحادث يعيد إلى الأذهان سلسلة من الحوادث العسكرية التي تكررت خلال العقد الأخير، والتي أُرجعت في معظمها إلى ما وُصف بـ”الإهمال الجسيم” في الصيانة والتدريب. 

ففي عام 2020، توفي عدد من جنود وحدة المظلات خلال تدريب روتيني بعد فشل في فتح المظلات بسبب خلل في المعدات، واعتُبرت تلك الحادثة صدمة للرأي العام العسكري، قبل أن يتم طيّ الملف دون إعلان نتائج التحقيق.

كما شهدت السنوات الماضية أكثر من حادثة لسقوط طائرات تدريب، أو انفجار ذخائر أثناء مناورات عسكرية، فيما يشير مراقبون إلى أن البنية التحتية العسكرية، رغم المليارات التي تُنفق عليها، تعاني من فجوات إدارية وفنية حادة. 

ويضيف هؤلاء أن التركيز على الاستعراضات العسكرية و”الشو الإعلامي” في عهد السيسي، يأتي أحيانًا على حساب الكفاءة الحقيقية والسلامة التشغيلية.

في هذا السياق، تثار التساؤلات حول مدى جاهزية المروحيات المصرية، خاصة الطرازات القديمة التي لم يتم تجديدها بشكل كامل، في ظل الاعتماد على صفقات من مصادر متعددة (فرنسا، روسيا، الصين، الولايات المتحدة)، ما يجعل نظام الصيانة غير موحد ويزيد احتمالات الخطأ الفني.

رأس البر.. مدينة في عين العاصفة

مدينة رأس البر التي شهدت الحادثة ليست مجرد منطقة ساحلية سياحية، بل تمثل موقعًا استراتيجيًا حساسًا، لقربها من ميناء دمياط، وخطوط الملاحة الحيوية، إضافة إلى منشآت أمنية وعسكرية في نطاق محافظة دمياط. ما يطرح علامات استفهام حول الأسباب التي دفعت المروحية للتحليق فوق هذا المجال الجوي المفتوح للمدنيين في وقت غير واضح من الناحية العملياتية، خاصة إذا لم يكن هناك تدريب معلن أو مهمة روتينية.

كما تداول نشطاء على مواقع التواصل أن الشاطئ كان مكتظًا بالمصطافين وقت الحادث، ما يضاعف من خطورة الموقف، ويطرح تساؤلات حول خطط الطوارئ وفعالية التنسيق المدني-العسكري في تلك المناطق. ولولا أن المروحية سقطت في الماء، ولم ترتطم بالبنية السياحية أو بالمدنيين مباشرة، لكانت الكارثة أكبر.

هل يُفتح التحقيق أم يُغلق الملف؟

الحادثة تضع المؤسسة العسكرية أمام اختبار جديد: هل سيتم إعلان نتائج التحقيق بشفافية؟ هل ستُحمّل المسؤوليات لجهات فنية أو لقيادات تقاعست عن أداء واجبها؟ أم سيكون مصير هذا الحادث كغيره من الحوادث التي طويت بلا محاسبة؟

في ظل نظام مركزي صارم كمصر، تتركز فيه القرارات داخل دائرة ضيقة تابعة مباشرة للرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن كثيرين لا يتوقعون إعلانًا حقيقًا للنتائج، أو إصلاحات جوهرية في المنظومة العسكرية. بل يتخوف حقوقيون ومراقبون من أن يتم استخدام هذه الحادثة كذريعة لمزيد من فرض السرية على العمليات العسكرية، ومنع أي تداول للمعلومات بحجة الأمن القومي.

عندما يصبح الإهمال سياسة دولة

سقوط المروحية في رأس البر ليس مجرد حادث فني عابر، بل مؤشر على اختلالات عميقة في منظومة أمنية يفترض أنها الأكثر انضباطًا في الدولة. 

وإذا كان المواطن العادي يُحاسب على أدق تفاصيل حياته، فإن من الأولى أن تُحاسب المؤسسات الأمنية والعسكرية عندما تفشل في أداء واجبها، خاصة إذا ترتب على هذا الفشل تهديد لحياة الناس، وهدر لأموال الشعب.

ومع تكرار هذه الحوادث دون نتائج أو دروس مستفادة، فإن ما يحدث لا يمكن وصفه إلا بأنه “إهمال ممنهج” لا يدفع ثمنه إلا الجنود والمواطنون، بينما يبقى القرار في يد من لا يُسألون عما يفعلون.

اقرأ أيضًا : مساعدات غزة.. ضغوط أمريكية وتواطؤ عربي وصمت قاتل