في عالم السياسة لا تُلغى الزيارات من فراغ، ولا تُعاد جدولتها دون رسائل مبطّنة قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتأجيل زيارته المرتقبة إلى أذربيجان فتح أبواب التحليل على مصراعيها، خاصة بعد تضارب الروايات حول الأسباب الحقيقية وراء التأجيل.
فبينما تحدّث مكتبه عن انشغالات دبلوماسية وتطورات ميدانية في غزة وسوريا، جاءت تسريبات صحفية لتشير إلى رفض تركي لطائرة نتنياهو بالتحليق فوق أراضيها، ما حول القصة إلى فصل جديد من التوتر التركي-الإسرائيلي في زمن تتصاعد فيه المواجهات غير المباشرة في أكثر من ساحة.
التحليق الممنوع: أجواء تُغلق في وجه التطبيع
أذربيجان، الحليف الوثيق لتل أبيب، كانت تستعد لاستقبال نتنياهو في زيارة تستمر خمسة أيام، لكن الرحلة لم تتم. وفي الخلفية، بدا أن المجال الجوي التركي تحول من مجرد ممر عبور إلى ورقة ضغط سياسية بامتياز.
تركيا، التي أعلنت عبر خارجيتها أنها لم تتلق طلبًا رسميًا لعبور طائرة نتنياهو، سبق وأن منعت بالفعل طائرة عسكرية إسرائيلية تقل وفدًا رسميًا من المرور في أبريل الماضي.
المنع التركي لا يمكن فصله عن سياق العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، واللغة الصدامية التي باتت تل أبيب تعتمدها ضد كل من يعترض على سياساتها.
وفي الوقت الذي تتكئ فيه إسرائيل على دعم أمريكي وغربي شبه مطلق، فإن تركيا تسعى لتأكيد موقعها كقوة إقليمية مستقلة، لا تمرر الطائرات دون حساب، ولا تصمت على صفقات الدم في غزة أو على عبث إسرائيل في الملف السوري.
صراع الرسائل: تركيا تُلوّح بقدراتها وموقفها
رفض تركيا المحتمل لاستخدام أجوائها من قبل نتنياهو ليس فقط قرارًا سياديًا، بل رسالة مزدوجة: واحدة لإسرائيل مفادها أن عهد اللامبالاة التركية قد ولّى، وأن المواقف العدائية في غزة وسوريا لن تمر دون رد؛ وأخرى للداخل التركي والعالم الإسلامي بأن أنقرة ما زالت تقف مبدئيًا مع الشعب الفلسطيني، رغم العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب.
في تصريحات مثيرة أدلى بها وزير الدفاع التركي يشار غولر، أشار إلى تدخلات إسرائيلية “لإثارة الفوضى” في الملف السوري، مؤكدًا أن تركيا لن تسمح بفرض أمر واقع في سوريا، لا من إسرائيل ولا من غيرها.
هذه التصريحات، بالتزامن مع الطرد غير المباشر لطائرة نتنياهو، تؤكد أن تركيا بدأت تصعّد من أدوات المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل.
الرد التركي هنا ليس عسكريًا، لكنه يحمل وزنًا سياسيًا كبيرًا، ويضع تل أبيب أمام مأزق جديد: ماذا لو بدأ المجال الجوي التركي يتحول إلى جدار سياسي يمنع إسرائيل من التنقل بحرية في مناطق نفوذها التقليدية، خاصة أن أذربيجان تمثل لها نافذة حيوية في قوقاز آسيا، من حيث الأمن والطاقة والعلاقات الاستخباراتية؟
أذربيجان كخط تماس إقليمي
أهمية زيارة نتنياهو لأذربيجان لا تتعلق بالعلاقات الثنائية فقط، بل تدخل ضمن سباق النفوذ بين إسرائيل وتركيا وإيران وروسيا في منطقة القوقاز، حيث باتت باكو نقطة تقاطع للمصالح.
إسرائيل تحاول تعزيز موقعها هناك كطرف موثوق في مجال التسليح والطاقة، خاصة مع ازدياد التوتر مع إيران، التي تتهم باكو بتسهيل اختراقات إسرائيلية لأمنها.
لكن في المقابل، فإن تركيا، التي ترتبط بأذربيجان بعلاقات تاريخية وعسكرية وثقافية قوية، ترى أن تمدد إسرائيل في هذه المنطقة لا يجب أن يكون دون توازن.
إغلاق الأجواء في وجه نتنياهو أو تعطيل زيارته هو تذكير بأن أنقرة حاضرة في المعادلة، وأن الترتيبات الجيوسياسية في باكو لن تتم بمعزل عنها.
إسرائيل تختبر صبر أنقرة: معارك الإحماء في سوريا
أكثر من ذلك، فإن الصراع بين تركيا وإسرائيل بدأ يتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا، لا سيما في الساحة السورية.
تصريحات أردوغان عن وحدة سوريا وتحذيراته من محاولات إسرائيل لزعزعة الاستقرار هناك، تقابلها تقارير إسرائيلية تتحدث عن دعم محدود لبعض الفصائل في القنيطرة، وعن انخراط استخباراتي إسرائيلي في الجنوب السوري.
مراكز أبحاث إسرائيلية تتحدث عن “معارك إحماء” بين أنقرة وتل أبيب، تُدار بشكل غير مباشر، لكن حساباتها معقدة.
إسرائيل تريد اختبار مدى صرامة تركيا في مواجهة أي تهديد جيوسياسي تمسه، وتحاول في ذات الوقت أن تجرّها إلى لعبة أعصاب في مسرح متعدد الجبهات.
حين تُغلق الأجواء.. تُفتح الجبهات
تأجيل زيارة نتنياهو لأذربيجان ليس مجرد تغيير في الجدول الدبلوماسي، بل يعكس توازنات جديدة بدأت تتشكل في المنطقة.
تركيا لم تعد تكتفي بالبيانات الغاضبة، بل بدأت تستخدم أدوات القوة الناعمة الصلبة: المجال الجوي، والموقف من الطائرات العسكرية، والاشتباك السياسي في سوريا. إسرائيل تدرك أن ما جرى هذه المرة قد يتكرر لاحقًا، في ساحات أخرى.
الأمر لم ينتهِ عند طائرة لم تقلع. بل بدأ من هناك. هذه ليست مجرد رحلة مؤجلة، بل بداية مرحلة اختبار للقوة والهيبة بين خصمين يعرفان بعضهما جيدًا، ويعرفان أن المعارك الكبرى تبدأ أحيانًا من السماء، قبل أن تهبط على الأرض.
اقرأ أيضًا : “إبادة الكلمة”.. الاحتلال يقتل الصحافة في غزة والعالم صامت
اضف تعليقا