في خطوة فُسّرت على نطاق واسع بأنها جزء من حملة تطهير سياسي وأمني تستهدف رموز النظام السابق، أعلنت الحكومة السورية الحالية عن اعتقال العميد سليمان التيناوي، أحد كبار ضباط جهاز المخابرات الجوية في عهد النظام المخلوع بقيادة بشار الأسد.

ويُعد التيناوي شخصية أمنية نافذة، وارتبط اسمه بجرائم جسيمة ارتُكبت ضد المدنيين السوريين، كان أبرزها مجزرة جيرود عام 2016.

اعتقال لافت وسط تغير في نهج الدولة

كشف المتحدث الرسمي باسم الحكومة السورية، محمد الفيصل، أن الأجهزة الأمنية تمكنت من إلقاء القبض على العميد سليمان التيناوي، وهو أحد الضباط البارزين في جهاز المخابرات الجوية، والمتورط في عدة جرائم حرب، مؤكدا أن الاعتقال جرى بإشراف مباشر من مديرية أمن اللاذقية، وتمت إحالة التيناوي إلى النيابة العامة لاستكمال التحقيقات معه.

وبحسب البيان الرسمي، فإن أبرز التهم الموجهة للتيناوي تتعلق بمجزرة جيرود التي راح ضحيتها نحو 70 مدنيًا في يوليو/تموز 2016، وذلك إثر عملية اقتحام عنيفة وقصف عشوائي شنّته المخابرات الجوية بالتعاون مع وحدات من الجيش السوري وشعبة المخابرات العسكرية.

وتأتي هذه الخطوة في سياق حملة أمنية منظمة تنفذها الحكومة الجديدة ضد فلول النظام البائد، في محاولة لإثبات القطيعة مع الحقبة السابقة التي اتسمت بالقمع الدموي والفساد الأمني، كما يرى مراقبون.

التيناوي.. اليد اليمنى لجميل الحسن

يُعد العميد سليمان التيناوي من أبرز رموز الجهاز الأمني للنظام السابق، وقد شغل مناصب حساسة في المخابرات الجوية، بدءًا من رئاسته لقسم الديوان المركزي في إدارة المخابرات الجوية، وهو المكتب المرتبط مباشرة باللواء جميل الحسن، مدير الإدارة آنذاك، والمطلوب دوليًا بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية.

ومنذ بداية الثورة السورية عام 2011، لعب التيناوي دورًا محوريًا في حفظ وأرشفة الأوامر الأمنية والقرارات الحساسة، وكان أحد الأذرع الأمنية المكلفة بالتنسيق مع الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، لتنفيذ سياسات القمع في المناطق الثائرة.

كما كان مسؤولًا عن العمليات الأمنية في مدينة جيرود بالقلمون الشرقي، مسقط رأسه، وهناك تولى بنفسه قيادة حملات الاقتحام التي شارك فيها مئات العناصر المدعومين من المخابرات الجوية، وانتهت بمجزرة جيرود، التي باتت رمزًا للتنكيل الجماعي الذي مارسه النظام السابق بحق معارضيه.

هل هي عدالة أم تصفية حسابات سياسية؟

اللافت أن اعتقال التيناوي يأتي في وقت تشهد فيه سوريا تحولات سياسية وأمنية داخلية، أبرزها سعي الحكومة الجديدة إلى إعادة هيكلة أجهزة الدولة وفصلها عن الحقبة الأسدية التي تسببت في عزل سوريا دوليًا لعقدين من الزمن.

وبينما يرى البعض في الخطوة محاولة لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، يذهب آخرون إلى أن الحكومة الحالية توظف هذه الاعتقالات ضمن حملة تصفية داخلية تهدف لتفكيك البنية الأمنية القديمة وتوجيه رسائل تطمينية للخارج مفادها أن زمن الإفلات من العقاب قد ولى.

وتسعى القيادة الجديدة لكسب مشروعية محلية ودولية من خلال محاكمة رموز النظام البائد المتورطين في جرائم موثقة، لا سيما وأن بعض هذه الجرائم وردت في تقارير لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية عالمية على غرار “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”.

المخابرات الجوية.. السجن الكبير

لطالما اعتُبرت المخابرات الجوية واحدة من أكثر الأجهزة الأمنية السورية قسوة وشراسة، إذ ارتبطت سجلاتها بانتهاكات ممنهجة شملت الاعتقال التعسفي، التعذيب حتى الموت، والاختفاء القسري.

وتُعد المخابرات الجوية مسؤولة عن إدارة عشرات المعتقلات السرية، أشهرها سجن المزة العسكري الذي يُقال إنه “لا يخرج منه أحد حيًا”.

وكان جميل الحسن، الذي ترأس الجهاز حتى عام 2019، قد تفاخر في تصريحات مسرّبة بأنه كان بإمكانه إبادة نصف سكان سوريا من أجل استقرار النظام، وقد ورد اسمه لاحقًا على قوائم العقوبات الأوروبية والدعاوى المرفوعة في ألمانيا وفرنسا ضد مسؤولين أمنيين سوريين.

نهاية رمزية لعهد الجلادين؟

يشكل اعتقال التيناوي، في حال جرى تعزيزه بمحاكمة علنية ونزيهة، منعطفًا في مسار العدالة الانتقالية في سوريا. إلا أن الشكوك لا تزال تحيط بمدى جدية الحكومة في محاسبة كل المتورطين، خاصة أن أسماء أخرى أكثر تورطًا لا تزال طليقة أو تحظى بحصانة غير معلنة.

غير أن الحملة المتواصلة ضد رموز النظام الأسدي، كما تقول الحكومة، تعكس على الأقل رغبة سياسية في تفكيك البنية الأمنية الطائفية التي حكمت سوريا بالحديد والنار.

وفي خضم إعادة الإعمار ومحاولات الانفتاح الإقليمي، لا يمكن تجاهل البعد الرمزي لاعتقال ضابط بحجم التيناوي، الذي يمثل أحد أوجه الحقبة السوداء التي يسعى السوريون للتخلص منها.

اختبار العدالة القادم

تبقى المحاكمة المرتقبة للعميد التيناوي اختبارًا حقيقيًا لنية الدولة السورية في طي صفحة الماضي، فهل ستكون هذه بداية لسلسلة محاكمات تنهي إفلات الجلادين من العقاب، أم مجرد إجراء انتقائي لتلميع صورة النظام الجديد؟

الأيام المقبلة كفيلة بكشف النوايا، غير أن اعتقال أحد صانعي الرعب في جهاز المخابرات الجوية، مهما كانت الدوافع، لا شك أنه يبعث الأمل في إمكانية التغيير والمحاسبة بعد سنوات طويلة من الاستبداد والدماء.

اقرأ أيضًا : سوريا تعتقل قيادياً في المخابرات الجوية: ضربة موجعة لفلول الأسد