في خضم التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، يعود إلى الواجهة مجددًا سؤال عميق يتجاوز تبادل الضربات والهجمات الجوية: من منهما يعيش فعليًا تحت وطأة “التهديد الوجودي”؟ هل هي إسرائيل التي تقول إن إيران تسعى لمحوها من الخارطة؟ أم إيران التي ترى أن إسرائيل رأس الحربة في محاولات إسقاط نظامها؟
بحسب مراقبين، فإن كلا الطرفين يتقاطع في الشعور بالتهديد الوجودي، لكن طبيعة هذا الشعور تختلف، كما أن جذوره ليست متساوية من حيث العمق أو مدى ارتباطها بواقع الدولتين ومكانتيهما في المنطقة.
إسرائيل وهواجس الوجود
ترى إسرائيل نفسها محاطة بجبهات معادية، وتعتبر أن مشروع إيران النووي وصواريخها بعيدة المدى، فضلًا عن دعمها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، كلها تمثل تهديدات “وجودية”.
هذا المصطلح، الذي يتكرر على لسان الساسة الإسرائيليين، وخاصة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لا يُستخدم على سبيل المبالغة الخطابية فحسب، بل يعكس خوفًا استراتيجيًا متأصلًا في البنية النفسية والسياسية للدولة العبرية، التي وُلدت في سياق استثنائي وتعيش منذ نشأتها حالة دائمة من التوتر الأمني.
الدكتور لقاء مكي، الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، يوضح أن إسرائيل تنظر لامتلاك أي دولة في المنطقة، وخاصة إيران، للسلاح النووي، كتهديد مباشر يمكن أن يفضي إلى “نهاية” الدولة العبرية. ويعلل هذا الشعور بالهشاشة العميقة في كيان إسرائيل، التي يعتبرها “طارئة على المنطقة”، على عكس إيران التي تمثل دولة عريقة ومتجذرة في التاريخ والجغرافيا.
ويضيف مكي أن الشعور بالتهديد الوجودي لدى طهران لم يكن راسخًا بنفس القدر حتى السنوات الأخيرة، لكنه بدأ يتبلور تدريجيًا مع تصاعد التهديدات والهجمات الإسرائيلية المباشرة ضد الأراضي الإيرانية.
إيران.. القوة في وجه العزلة
من منظور إيراني، ليست إسرائيل وحدها التي تشكل خطرًا، بل المنظومة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وتستخدم إسرائيل كأداة ضغط ضد طهران. فمنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، وهي تتعرض لعقوبات، محاولات عزل دبلوماسي، وتهديدات مستمرة.
لكن في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد اغتيال قاسم سليماني، وتصاعد الهجمات السيبرانية والتفجيرات في المنشآت النووية، بدأت إيران تتعامل مع المسألة بوصفها حربًا وجودية ضد نظامها السياسي ذاته.
الباحثة فاطمة الصمادي تشير إلى أن إيران وإن كانت تؤكد عدم رغبتها في خوض حرب شاملة، إلا أنها تدرك أن المواجهة مع إسرائيل باتت حتمية، ولهذا راكمت أوراق قوة متعددة، من البرنامج النووي والصاروخي، إلى تطوير المسيّرات وتعزيز نفوذها الإقليمي.
وفي رؤيتها، فإن المواجهة الأخيرة، على الرغم من شراستها، ليست نهاية المطاف، بل جولة من جولات ستتكرر، ويبدو أن طهران باتت مستعدة أكثر من أي وقت مضى للدخول في مواجهات طويلة الأمد، مدفوعة بإحساس عميق بالخطر على النظام والكيان معًا.
التصعيد الأخير.. انعكاس للمخاوف المتبادلة
الهجوم الإسرائيلي الواسع الذي بدأ فجر الجمعة، تحت اسم “الأسد الصاعد”، استهدف منشآت نووية وقواعد عسكرية في قلب إيران، وأسفر عن اغتيال شخصيات عسكرية وعلمية بارزة.
كان هذا التحرك بمثابة تطبيق عملي لما وصفه نتنياهو بأنه رد على “تهديد وجودي وشيك”، وهو ما يشير إلى طبيعة الردع الذي تتبناه تل أبيب في تعاملها مع طهران.
لكن الرد الإيراني لم يتأخر، فبحلول مساء اليوم ذاته، أطلقت طهران رشقات صاروخية وطائرات مسيرة، استهدفت مواقع حساسة في تل أبيب وحيفا، وأسفرت عن قتلى وجرحى وأضرار واسعة. هذا الرد غير المسبوق، يحمل رسائل واضحة بأن إيران لن تسمح بمرور الهجمات دون رد، وأن ميزان الردع قد تغيّر.
خلاصة: من الذي يخشى الزوال أكثر؟
من الناحية السيكولوجية، تبدو إسرائيل أكثر ارتباكًا بشأن أمنها الوجودي، وهو ما ينعكس في خطابها السياسي، وتحركاتها العسكرية، وسعيها المستمر لتحجيم قوة إيران. هذا الشعور بالتهديد قد يكون نابعًا من قلق وجودي تاريخي مرتبط بكيانها كـ”دولة أقلية” في محيط عربي وإسلامي واسع، يرى فيها عنصرًا غريبًا.
أما إيران، فرغم التصعيد الكبير، ما زالت تعتمد على سردية “القوة والقدرة على الصمود”، مستفيدة من عمقها الجغرافي والبشري والتاريخي، لكنها في الوقت ذاته باتت ترى أن الحفاظ على نظامها وكيانها السياسي يمر عبر المواجهة مع إسرائيل، وبالتالي فإن التهديد الوجودي بات متبادلًا، وإن كانت أسبابه ودوافعه متباينة.
في النهاية، فإن السؤال عن الطرف الذي يشعر بتهديد وجودي أكثر، لا يمكن فصله عن طبيعة الدولة، تاريخها، شرعيتها، وجذورها في الأرض. ومن هذا المنظور، تبدو إسرائيل هي الطرف الذي يخشى الزوال أكثر، لأنه ببساطة، يشعر أنه لم يتجذر بعد.
اقرأ أيضًا : هل تستطيع إسرائيل حقًا تدمير المفاعلات النووية الإيرانية؟
اضف تعليقا