عاد استشاري جراحة الصدر الدكتور إيهاب مساد من غزة، ليحمل معه شهاداتٍ مرعبة عن الجحيم الذي يعيشه مليونان ونصف المليون فلسطيني تحت نير العدوان والحصار الإسرائيلي المتواصل.
لم تكن زيارته للقطاع مجرد مهمة طبية مؤقتة، بل كانت رحلة إلى قلب الكارثة، حيث ينهار كل ما يمتّ للحياة والكرامة بصلة، من مستشفيات، إلى الغذاء، إلى الماء، إلى طفولة تنقرض بصمت.
أسبوع فقط أمضاه مساد في غزة كان كفيلاً بأن يرسم صورة كاملة لفصل من فصول الإبادة الصامتة، فصل عنوانه “الموت البطيء”، ضحاياه مرضى جُرِّدوا من الدواء، وأطفال تآكلت أجسادهم من الجوع، وأمهات يرضعن أولادهن الماء الملوث بدل الحليب، تحت سماء لا ترحم وصمت دولي لا يُحتمل.
أطفال يبحثون عن الحياة بين الركام
يصف الطبيب العائد حديثاً أطفال غزة بأنهم “أشباح تمشي على الأرض”. نحول أجسادهم، اصفرار وجوههم، نظراتهم الخاوية، كلها مؤشرات واضحة على بدايات المجاعة. لا ماء نظيف، لا طعام، لا كهرباء، ولا حتى سقف يحميهم من حرّ الشمس أو برد الليل.
بعضهم يبيع ما علق في جيوبه من بقايا طعام أو أشياء بسيطة لينقذ أسرته، والبعض الآخر يحفر في الأنقاض بحثاً عن قنينة ماء أو كسرة خبز.
الأدهى من ذلك أن الأمراض بدأت تنتشر كالنار في الهشيم مع غياب المياه الصالحة للشرب ووسائل النظافة الأساسية، أصبحت العدوى البكتيرية، وأمراض الجلد، والإسهال المزمن، وحتى الكوليرا، تهدد حياة الصغار قبل الكبار.
غزة، كما يقول مساد، دخلت بالفعل مرحلة الكارثة الصحية، وكل تأخير في إنقاذها يعني المزيد من التوابيت الصغيرة.
المستشفيات.. مسالخ بشرية لا أدوات فيها
يؤكد مساد أن المشافي لم تعد تؤدي دورها كمراكز إنقاذ، بل أصبحت أشبه بمحطات انتظار للموت.
غرف العمليات تُدار بأساليب تعقيم بدائية بسبب انقطاع المواد الأساسية، ما يؤدي إلى إصابات بعدوى قاتلة عقب كل عملية جراحية. المرضى يفترشون الأرض في الممرات، والأطباء يعملون بلا توقف، بلا رواتب، وبلا أدوات.
كل يوم يصل العشرات من المصابين، بعضهم مبتورو الأطراف، بعضهم محترقو الأجساد، وبعضهم مصابون بأمراض مزمنة لا علاج لها دون أجهزة وأدوية لم يعد يسمح الاحتلال بإدخالها. يموت كثيرون أمام عيون الأطباء الذين تقيدهم ندرة الموارد وقلّة الإمكانيات، في مشهد مأساوي لا ينسى.
حتى الحضانات مهددة بالتوقف خلال ساعات، وأقسام العناية المركزة تنهار واحدة تلو الأخرى.
لن تمضي أيام حتى تغلق كل المستشفيات أبوابها، وتترك آلاف المرضى والأطفال الخدج لمصيرهم، بينما يقف العالم متفرجاً.
الحصار المطبق.. وجريمة الخيانة العربية
ليس الاحتلال وحده من يصنع هذه الكارثة. فالحصار المفروض على غزة لا يُبقي ولا يذر، وهو حصار ثلاثي الأركان: إسرائيلي مباشر، مصري متواطئ، ودولي متواطئ بالصمت. المعابر مغلقة، الوقود ممنوع، والمساعدات تمرّ عبر مسالك الذل، وبكميات لا تكفي سوى لتلميع صورة بعض الوسطاء.
الأدهى هو موقف النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي لم يكتفِ بإغلاق معبر رفح في وجه المصابين، بل خنق غزة سياسياً واقتصادياً، في لحظة كانت تحتاج فيها إلى يد عربية حانية، لا خنجراً في الظهر. لقد أدار السيسي ظهره لغزة في أقسى لحظات محنتها، ورضي لنفسه أن يكون جزءاً من جريمة الحصار، بدل أن يكون بوابة إنقاذها.
أين الجامعة العربية؟ أين المنظمات الإسلامية؟ أين ضمير الشعوب؟ أين الغضب العربي؟ بل أين نخوة القادة؟ غزة اليوم لا تحتاج بيانات تنديد، بل تحتاج وقفة شرف، وكسر الحصار بالقوة، وبإرادة سياسية عربية لا تخشى واشنطن ولا تخطب ودّ تل أبيب.
هل تنتظرون سقوط آخر مستشفى؟
حين يتحدث مدير مستشفى أصدقاء المريض عن خطر موت جماعي للأطفال بسبب سوء التغذية، يجب ألا يمرّ تصريحه مرور الكرام. حين تحذّر وزارة الصحة من انهيار المنظومة الصحية خلال 48 ساعة، فذلك يعني أن كارثة بحجم “موت مدينة” قادمة لا محالة.
فهل ينتظر العالم سقوط آخر مستشفى؟ هل يحتاج المجتمع الدولي أن يرى صوراً لآلاف الجثث تحت الأنقاض ليصحو ضميره؟ أم أن الفلسطينيين أقل شأناً من الأوكرانيين والسوريين حين يُقصفون ويُحاصرون ويُذبحون؟
إن ما يحدث في غزة جريمة مكتملة الأركان، تبدأ بالقصف والحصار، وتمر بالتجويع والتعذيب، وتنتهي بالتواطؤ العربي والدولي الذي يسمح لكل ذلك بالاستمرار.
كلمة أخيرة من غزة: أنقذوا ما تبقى
عودة الدكتور إيهاب مساد من غزة ليست مجرّد خبر في النشرات، بل شهادة يجب أن تهزّ ضمير كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الرجل رأى الموت بعينه، وسمع أنين الأطفال، ولمس بأصابعه معاناة الأطباء الذين يعملون دون كهرباء ولا ماء، ويتوسلون لإنقاذ مريض واحد من بين المئات.
الرسالة التي ينقلها لنا هذا الطبيب من قلب غزة هي صرخة لا لبس فيها: “أنقذوا ما تبقّى”. لا تتحدثوا عن هدنة، بل عن فكّ الحصار فوراً. لا تتحدثوا عن مؤتمرات دعم، بل عن إرسال الغذاء والدواء والوقود الآن، وبأي طريقة.
اقرأ أيضًا : صراع السحاب بين الاحتلال وتركيا.. لماذا تأجلت زيارة نتنياهو لأذربيجان؟
اضف تعليقا