لم أتعامل معه يومًا على أنه مجرد شخصية سينمائية أشاهدها في فيلم؛ بل ينتابني دومًا هاجس مُلِح، يهمس لي أنه حقيقي، ربما حقيقي أكثر من اللازم، وأنني حتمًا سأواجهه على أرض الواقع، يومًا ما.

كان المشهد كما يلي: يجلس “عبد الملك زرزور” على كرسي مرتفع كثيرًا عن الأرض، ضخم، له مسندين للذراعين، كأنه عرش سلطاني، وفي يده اليُمنى سواك، يفرك به أسنانه ببطء، وهو يُحدِّق في الواقفين أمامه، قبل أن يقول بلهجته المميزة وصوته الجهوري: لسَّه الكازيون أهو! اللي عاوز يقول حاجة يقولها.

كلما شاهدتُ هذا المشهد، ارتعد شيء ما داخلي، تصيبني رجفة وقشعريرة، تسري أسفل جلدي، ولا أستطيع إيقافها.

اعتمد المخرج “مروان حامد” على الإضاءة وتأثير الصوت، في هذا المشهد؛ لتكتمل الصورة الأسطورية التي أراد منذ البداية أن يرسمها لبطله المُفضل “عبد الملك زرزور”.. أحبَّ “مروان حامد” زرزور كثيرًا، أحبَّ الشخصية التي رسم تفاصيلها السيناريست “عباس أبو الحسن” بمهارة وصبر وتفاصيل قلما نجدهم في السينما العربية، وترجم حبه هذا من خلال مجهوده في خلق شخصية سينمائية ثلاثية الأبعاد، من لحم ودم، جسّدها العملاق “محمود عبد العزيز”، مؤديًا أحد أفضال أدواره خلال تاريخه الفني الطويل.

عبد الملك زرزور: صاحب تجارة المخدرات الضخمة، زعيم مملكة “الزرازير”، تحت إمرته عصابة ضخمة من الرجال، وشبكة متشعبة من العلاقات والنفوذ الضاربة في جذور المجتمع السفلي لمصر، والأهم من كل هذا هو هيبته، التي اكتسبها من سمعته الطويلة كرجل عصابات شديد الشراسة، لا تهتز فرائصه لارتكاب أي شيء، مهما كانت فداحته، حتى القتل يُعتبر في شريعته أثرًا جانبيًا، لا أكثر.

سلاح “زرزور” الأهم هو هيبته؛ التي اكتسبها بفضل قدراته النفسية، وملكاته الشخصية الفريدة، القادرة على التوغل في ذات من يواجهه؛ وزرع الفزع في قلبه… نجده يحدق في عينيَّ “سيد شيبة”، أحد “صُبيانه”، بعد أن قرر التصرُّف دون أمره، فترتجف عيونه، وتنهار قدرته على تلفيق الكذبة، قبل أن يبتسم “زرزور” ابتسامة واسعة مفاجئة، ويأمره وهو يربت على وجه بقوة: “روح هات الكيس يا شيبة! روح هات الكيس”، وبعد أن يعود بما أمر به، يتحدث عنه “زرزور” ضاحكًا، في معرض حديثه مع “إبراهيم”: “.. وعلى رأي سيد شيبه الله يرحمه ما كان بيقول: يا روح ما بعدك روح!”، بينما “سيد شيبة” على قيد الحياة في هذه اللحظة، أو على وشك مغادرتها في واقع الأمر؛ فرجال “زرزور” قد شرعوا في تصفيته في تلك الأثناء؛ ليتحدث عنه “زرزور” وكأنه في حكم الأموات! تعمد “مروان حامد” رسم صورة لـ “زرزور” فوق مستوى البشر؛ فهو يملك قبض الأرواح، ويردد بثقة بعد أن ينهي قراءة الفاتحة على جثة أحد رجالة: “وأن عذابي هو العذاب الأليم”، كانه يردد الآية على لسانه هو، قبل أن ينفرد بأحد أبنائه “جارحي”، ويغرز خطافًا حديديًا في منبت خصيتيه، فجأة، وهو يهمس قرب وجهه بغل: “تعك من ورا ضهري.. تصبح عدوي!”؛ لأنه قرر التصرُّف دون علمه، دون أمره، ولا أحد يقدر على مخالفة أمر “زرزور”.

أصبح “زرزور” أيقونة، تمتلئ صفحات الفيسبوك بمقولاته التي رددها طوال الفيلم: “الجرأة حلوة مفيش كلام”، و “دنيا غرورة! مكتوب”، وأشهرها بالطبع وأكثرها انتشارًا هي: “أهون عليك.. تهون عليا”؛ ولعلها أصبحت الجملة الأكثر انتشارًا لأنها مرتبطة بجزء خاص جدًا من حياة “زرزور”، زرزور المُحِب، العاشق، المتهاوي في محبة “حورية”.

“ربنا يكفيك شر الراجل لما يحب مَرَه!”.. هكذا لخص “غنّام”، أحد صبية زرزور، حدوتة تعلُّق قلب “المَعلم” الكبير بالفتاة الساحرة “حورية”.

حورية: الشابة المليحة التي وقع “زرزور” في حبها، واستعصت عليه، لم تطاوعه؛ “فحكم عليها بالبور”، وقرر أن يورد الهلاك كل من يفكر في الزواج منها، وكانت سببًا رئيسيًا في اشتعال الصراع بينه وبين “إبراهيم الأبيض”، الشاب الذي فاز بقلب “حورية”.. هذا القلب الذي استطاع كسر “زرزور”.

قصة “عبد الملك زرزور” و”حورية” تطالعني دومًا كمثال للكيفية التي يمكن من خلالها أن يكسر الحب صاحبه، حتى لو كان رجلًا بثقل “زرزور”.. يكسره العشق، ويجعل أعظم أمانيه أن ينال “حورية” برغبتها، “بهواها” كما يردد، هذه هي أعظم أمانيه؛ لأنها الشيء الوحيد الذي استعصى عليه.. عشق “حورية” فقط هو الذي جعله يرضى بأن يتزوج منها، ويرضى بشرطها الذي فرضته عليه بألا يمسَّها، ويصبح أقصى ما يملك هو أن يتأمل جسدها وهي نائمة، ويذهب للحمام لإفراغ رغبته؛ كأنه مراهق يتتبع هوسه بجسد معشوقته.. تزوجها، وجعلها ملكة على مملكته، وارتضى بأن تتحكم في كل شيء، على أمل أن تمنحه رضاها وجسدها.. “عشمي بقى، ذوقي يكسفك!”، لكن رضوخه لها لم يجعلها تخجل كما توقع، بل تمادت في طغيانها، وتسلطها على جميع “الزرازير”، حتى أنه ارتضى هروبها المتكرر من مملكته، ولم يكن يملك أمام هذا سوى الانكسار، تعود له، تحمل حقيبتها، بينما هو جالس في اسطبل الخيول متهالكًا، منكسرًا، في انتظارها، يرفع رأسه لها، يظهر وجهه الذي ازداد شيبه سنينًا في أيام غيابها عنه، يطالع عينيها؛ فتنكسر نظراته من جديد في مواجهتها.

أحببتُ العاشق “عبد الملك زرزور”، وما زلتُ أخشى أن أكونه؛ لأنني أخاف انكسار الحب، وأعلم أنه الشيء الوحيد الذي لا قِبل لأشد الرجال بمواجهته.. ولأنني أعلم أن العاشق الهائم في ملكوته الخاتص ينقلب وحشًا عندما يستشعر خيانة من يحب، عندما يحس أن حبه ووفائه بلا مقابل، كما فعل “زرزور” في نهاية المطاف مع معشوقته “حورية”، عندما قتلها بنفسه، أطلق الرصاص على أقرب مخلوقات الله لقلبه، قتل نقطة ضعفه الوحيدة في الحياة، بعدما وجدها تهرع لإنقاذ منافسه على قلبها “إبراهيم”، قتلها بعد أن همس لها بعبارته الأخيرة “أهون عليكي.. تهوني عليا”، ليتأمل جثتها تسقط أمام عينيه، برصاص مسدسه، ويبكي كطفل مذعور، فقد أعز ما يملك، ويكاد يتهاوي على الأرض لولا أن أمسكه “سراج”، مساعده المُقرَّب.

جنبنا الله لوعة العشق، وجنون الشوق، ومرارة الفقد، وووطأة الخيانة، ومرارة الانتقام، التي تحرق قلب العاشق قبل أي أحد آخر.. وحده الحب القادر على كل هذا، فاللهم لا تؤاخذنا فيما لا نملك!

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.