في خطوة وصفت بأنها أولى ملامح العدالة الانتقالية بعد سقوط نظام بشار الأسد، أعلنت وزارة العدل السورية، الخميس، عزل 67 قاضياً ممن عملوا في ما يُعرف بـ”محاكم قضايا الإرهاب”، التي شكّلت أبرز أدوات النظام السابق في قمع الثورة السورية ومحاكمة المعارضين السياسيين والنشطاء المدنيين طوال أكثر من عقد.
ويُعد هذا الإجراء، وفق المراقبين، محاولة من السلطات القضائية في سوريا الجديدة لتصحيح ممارسات سابقة استندت إلى قرارات استثنائية صدرت في ظروف استثنائية، وانتهكت أبسط قواعد المحاكمات العادلة.
ويأتي القرار بموجب المرسوم الرئاسي رقم 88 لعام 2025، بعد تحقيقات مطولة أجراها مجلس القضاء الأعلى، بالتعاون مع جهاز التفتيش القضائي.
من أدوات القمع إلى موضع المساءلة
محاكم قضايا الإرهاب، التي أُنشئت عام 2012 في أعقاب اندلاع الثورة السورية، كانت تُستخدم كغطاء قانوني لتصفية الخصوم السياسيين وشرعنة الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري، حتى بات مجرد تحويل المتهم إليها يُعد حكماً ضمنياً بالإدانة.
وقد خضع آلاف المعتقلين المدنيين، بينهم نشطاء سلميون وأطباء ومهندسون وأكاديميون، لمحاكمات صورية أمام هذه المحاكم، التي كانت تصدر أحكاماً مشددة بناء على اعترافات منتزعة تحت التعذيب، دون احترام لأدنى معايير العدالة.
وبحسب بيان وزارة العدل، فإن التحقيقات المسلكية أثبتت تورط القضاة المعزولين في “تعزيز القبضة الأمنية الجائرة”، والمساهمة في حرمان المواطنين من حقوقهم الأساسية، ما تسبب في أضرار فادحة لعائلاتهم وممتلكاتهم. ووصفت الوزارة ذلك بأنه “انحراف خطير في أداء الوظيفة القضائية”، مؤكدة إحالة بعض القضاة إلى النيابة العامة لاستكمال التحقيقات الجزائية.
العدالة الانتقالية.. مكسب للثورة
ويرى حقوقيون أن قرار العزل هو ثمرة من ثمار الثورة السورية التي قدم شعبها تضحيات جسيمة في سبيل الكرامة والحرية، مشيرين إلى أن هذه الخطوة تُعد تمهيداً لمساءلة كل من تورط في الانتهاكات، سواء من القضاة أو رجال الأمن أو كبار المسؤولين في عهد النظام المخلوع.
ويعتبر البعض أن هذه المحاسبة، وإنْ تأخرت، ترسل رسالة واضحة بأن الإفلات من العقاب لن يكون مسموحًا بعد اليوم.
ورغم أن القرار لم يشمل حتى الآن سوى القضاة، فإن أصواتًا في الداخل السوري بدأت تطالب بتوسيع التحقيقات لتشمل مسؤولي الأجهزة الأمنية الذين كانوا ينسقون مع هذه المحاكم، ويضغطون لتوجيه مسارات التحقيق بما يخدم مصالح النظام القمعي.
خطوة رمزية أم تحول حقيقي؟
من جهة أخرى، حذّر ناشطون قانونيون من الاكتفاء بإجراءات رمزية لا ترقى إلى مستوى العدالة الانتقالية الحقيقية، داعين إلى الشفافية في عرض نتائج التحقيقات، والكشف عن أسماء القضاة المعزولين، وآليات تعويض الضحايا الذين حُكم عليهم دون وجه حق.
كما نبه آخرون إلى ضرورة تحويل هذه الوقائع إلى محاكم جنائية وطنية أو دولية مختصة، لا الاكتفاء بالعزل الإداري، لا سيما أن محاكم الإرهاب لم تكن مجرد اختلال مؤسسي عابر، بل كانت حجر الأساس في بنية النظام الأمنية والقضائية التي قهرت السوريين لسنوات.
دعوة للضحايا لكسر الصمت
وفي خطوة لافتة، دعت وزارة العدل المتضررين من قرارات القضاة المعزولين، سواء ممن تعرضوا لانتهاكات أو لابتزاز، إلى التقدم بشكاواهم أمام النيابة العامة، مؤكدة توفير قنوات رسمية وآمنة لاستقبال هذه الشكاوى. وتُعد هذه الدعوة سابقة في تاريخ القضاء السوري، الذي كان يُمنع فيه الضحايا من المطالبة بحقوقهم خشية الملاحقة أو التنكيل.
وقد تشجع هذه الخطوة عشرات الآلاف ممن خرجوا من المعتقلات أو عائلات الضحايا على كسر حاجز الخوف، والمشاركة في ترسيخ مسار العدالة، عبر تقديم الشهادات والوثائق التي تُدين من تلاعب بمصائرهم.
إعادة بناء الثقة في مؤسسة القضاء
وفي ختام بيانها، شددت وزارة العدل على التزامها بـ”إصلاح المؤسسة القضائية”، وتعزيز الشفافية والنزاهة، ومكافحة الفساد، وهي شعارات لطالما رددها النظام السابق دون تطبيق فعلي. لكن هذه المرة، يترقب الشارع السوري ما إذا كانت الخطوة الحالية بداية لنهج جديد، أم أنها مجرد محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتبييض وجه المؤسسة.
تبقى الحقيقة أن الثورة السورية التي كُتب لها أن تُقمع بوحشية لسنوات، بدأت تجني بعض مكاسبها متأخرة، وبثمن باهظ من الدم والدموع، لكنّ السير في طريق المساءلة والمحاسبة، مهما كان بطيئًا، يشكل بارقة أمل في أن سوريا الجديدة ستكون دولة قانون وعدالة، لا دولة أمن وخوف.
اقرأ أيضًا: عدوان سافر برعاية أمريكية: إسرائيل تمطر طهران بالصواريخ وتغتال قادة عسكريين
اضف تعليقا