العدسة – أحمد فارس
وضع غريب للغاية لكل من يتابع الأوضاع في مصر خلال السنوات القليلة الماضية! هذه المرة لا حديث عن اعتقالات أو تضييق أو قمع أو أوضاع اقتصادية، ولكن عن ضيق شديد من النظام المصري بالدعاء على الظالمين.
يبدو أن النظام المصري الحالي برئاسة عبدالفتاح السيسي يضيق من كل شيء لا يأتي على هواه تمامًا، ولكن الغريب ما سر هذا الموقف الصارم والشديد من مسألة الدعاء على الظالمين.
ولكن ما يتضح من تكرار وقائع ضد “الدعاء على الظالمين”، أنه ليس رفضًا للدعاء في ذاته، بقدر اتصاله بشكل أساسي بالوضع في مصر خلال ولاية السيسي الأولى، وما تنذر به القرارات من استمرار نفس السياسات والإجراءات القمعية والاقتصادية المتردية.
وقف مذيع
عشرات بل مئات الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام المصري خلال الأيام القليلة الماضية، سواء ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية واستعدادات الحكومة الجديدة لعرض خطتها على مجلس النواب خلال الأسبوع المقبل وفقًا لبعض التقديرات، وغيره من الأخبار التي تهم الشارع المصري، عقب قرارات رفع أسعار الوقود.
ولكن توقف الكثيرون أمام خبر “غريب”، مفاده وقف مذيع بالإذاعة المصرية عن العمل، لمجرد دعائه على الظالمين، دون أن يذكر أي طرف، ولكنه دعاء مجرد عام لا يشير إلى أي شخص أو اسم أو دولة من قريب أو بعيد.
هذا الدعاء لا يفارق المسلمين في صلواتهم ودعائهم بشكل عام، بما يثير علامات الاستفهام حول اتخاذ هكذا قرار.
وجاء قرار “نادية مبروك”، رئيس قطاع الإذاعة بجهاز الإذاعة والتليفزيون المصري، وقف “حمدي عبدالمجيد”، المذيع بشبكة البرنامج العام عن العمل، وإحالته إلى التحقيق، بسبب “تجاوزات مهنية” صدرت من جانبه أثناء نقله شعائر صلاة فجر الخميس الماضي، من مسجد السيدة زينب.
“تجاوزات مهنية”.. هكذا تحججت “مبروك” بقرار وقف “عبدالمجيد” عن العمل، دونما تحديد هذه التجاوزات المهنية، ثم ما هي التجاوزات المهنية في إلقاء مذيع دعاء خلال نقل شعائر صلاة الفجر.
وجاء نص دعاء “عبدالمجيد” -وفقًا لتقارير صحفية مصرية- كتالي: “اللهم عليك بالظالمين، اللهم إن كنا أيدنا ظالمًا في هذه الدنيا فإنا نتبرأ إليك من هذا.. ربنا لا تول علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، ولا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا، وتول أمرنا”.
وفي محاولة لتبرير وقف المذيع عن العمل، جاء نص الأخبار المتداولة عن الواقعة، أن مسؤولي الإذاعة تفاجأوا بخروج “عبدالمجيد” عما هو متعارف عليه من أدعية يتم إعدادها مسبقًا.
وعند النظر في التبرير المشار إليه سابقًا، فإن ثمة تأكيدات بأن كل شيء يحدث في الدولة، وتحديدًا داخل الإذاعة والتليفزيون، معد مسبقًا، ولا يمكن الخروج عليه، حتى لو من خلال دعاء غير موجه لأي شخص أو جهة أو دولة.
السؤال البارز هنا، وعلى افتراض خروج المذيع عن الأدعية المعدة سلفا، ما هو الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في الواقع؟!.
واقعة سابقة
واقعة وقف مذيع البرنامج العام في الإذاعة المصرية، يبدو غريبًا ومريبًا للغاية، ورغم توجيه انتقادات شديدة لمسؤولي الإذاعة، يمكن عدم الوقوف أمامه كثيرًا، ولكن الأزمة أنها لم تكن الواقعة الأولى المتعلقة بضيق النظام المصري من “الدعاء على الظالمين”!.
في 2015، وتحديدًا في شهر رمضان من نفس العام، قررت وزارة الأوقاف وقف الشيخ محمد جبريل من أي عمل دعوي في مساجد الجمهورية كاملة، سواء كان إمامة أو إلقاء دروس دينية.
“جبريل” كان يؤم المصلين في مسجد عمرو بن العاص كل عام، إذ يتجمع الآلاف من المنطقة المحيطة بالمسجد وخارجها خلال صلاة التراويح وقيام الليل.
وفي ليلة 27 من رمضان، انطلق جبريل في الدعاء، وكان من بينه “الدعاء على الظالمين”، شأنه شأن غيره من الأئمة الذين يدعون على الظالمين، ولكن فوجئ الجميع بضجة كبيرة للغاية، دون معرفة السبب.
وتناوبت وسائل الإعلام الموالية للنظام المصري على اتهام “جبريل” بتوظيف الدين لخدمة أغراض سياسية، دون أن تذكر صراحة ما هي هذه الأغراض السياسية.
وزارة الأوقاف -التي يقودها محمد مختار جمعة، المعروف بالانصياع للأجهزة الأمنية- أصدرت بيانًا في حينها، مؤكدة أن “جبريل” خرج على تعليمات الوزارة في دعاء القنوت، ووظف دعاء القنوت توظيفًا سياسيًّا لا علاقة له بالدين بما يمثل متاجرة بعواطف الناس على أحسن تقدير.
وشددت على أن أي صاحب دين حقيقي لا يمكن أن يستغل دور العبادة لتحقيق أمجاد شخصية، أو مكاسب مادية أو سياسية على حساب دين الله، وأن من يفهمون دين الله فهمًا صحيحًا لا يمكن أن يقبلوا مثل هذا الابتداع في بيوت الله، أو الخروج بدور العبادة عن مقاصدها الشرعية.
وزارة الأوقاف اتهمت “جبريل” بـ”الابتداع” في بيوت الله، لمجرد أنه قرر الدعاء على الظالمين، في اتهامات أثارت الرأي العام المصري حينها، وزادت من المتعاطفين مع “جبريل”، خاصة أنه لم يخطئ في شيء.
الوزير لم يقف عند هذا الحد، ولكنه قرر تعميم موقف “جبريل” ووقفه عن إمامة المصلين أو إلقاء الدروس على كل مديريات وإدارات الأوقاف في الجمهورية، لكي يكون عبرة لمن يتلاعبون بشرع الله، على حد زعمه.
في حين أن القرآن الكريم والسنة النبوية يحفلان برفض الظلم، وجواز الدعاء على الظالم، بل والتحذير من آثار الظلم، ومن الأحاديث النبوية: “اتَّقوا دعوةَ المظلومِ، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجابٌ”.
بيان الوزارة آنذاك كان بداية لعصر جديد لا تشهد فيه مساجد الجمهورية الدعاء على الظالمين.
الغريب! أن دعاء “جبريل” على الظالمين كان يمكن أن يأخذ حجمًا أقل؛ إذ كان بإمكان الوزارة وقفه، دون إثارة الرأي العام، ولفت الانتباه والأنظار إلى أن النظام المصري يرى نفسه ظالمًا ويخاف من أي دعاء على الظالمين، لأن رأس النظام منهم، هكذا يمكن تفسير موقف الوزارة والإعلام الموالي للسيسي.
لماذا يضيق؟
وقف مذيع الإذاعة المصرية ومن قبله “جبريل”، يؤكد تخوفات نظام السيسي من أي دعاء على الظالمين، وأن أزمة “جبريل” لم تكن عفوية، ولكنها تأسيس لمرحلة جديدة، بدليل وقف عبدالمجيد بعد نحو 3 سنوات من وقف جبريل عام 2015.
لا يمكن تفسير تحركات وإجراءات أجهزة الدولة المصري تجاه “الدعاء على الظالمين” إلا في إطار أن السيسي يعتبر نفسه ظالمًا، في ظل حجم الضيق الشعبي تجاه سياساته الاقتصادية المجحفة على الطبقات الوسطى والفقيرة.
حتى لو أن السيسي لا يرى نفسه ظالمًا، فإنه في الحقيقة يضيق من أية انتقادات توجه له ولنظامه وسياساته، ولا يرغب في مخالفته في أي شيء، وهذا يتضح من خلال عدة جوانب، أبرزها ما جاء في الحوار الدِّعائي له قبل انتخابات الرئاسة الماضية، حينما حاول التأكيد على أنه يسمع لكل الآراء الرافضة لسياساته، إلا أنه في النهاية أكد أن من يتحدث لا يعرف شيئًا، قائلًا: “أنا عايز اللي يتكلم يكون عارف وفاهم”.
ولا يرغب النظام الحالي في أي تجميع للرأي العام، أو تصدير صورة أنه “الظالم” للشعب المصري في ظل سياساته السيئة.
ويأتي سياق وقف مذيع الإذاعة بعد أيام من قرار رفع أسعار الوقود، وهنا يفهم أن المقصود من الدعاء على الظالم كان السيسي، خاصة في ظل الاحتقان الشديد منه.
ويتحسس نظام السيسي بشدة مما يعتبره أية محاولة لإثارة الشعب المصري ضده، وهذا يتضح من جملة الاعتقالات للنشطاء، بينهم هيثم محمدين، وشادي الغزالي حرب، ومحمد عادل، قبل رفع أسعار الوقود.
اضف تعليقا