أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” رسميًا، انتهاء عقدها مع نجم كرة القدم السابق والمعلق الشهير غاري لينكر، بعد قرابة 20 عامًا من الشراكة الإعلامية التي جعلته أحد أبرز وجوهها، وخصوصًا عبر برنامجه الشهير Match of the Day.
البيان المقتضب الذي صدر عن “بي بي سي” لم يخفِ أن القرار جاء إثر تعليقات نشرها لينكر مؤخرًا عبر حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تم اعتبارها من قبل جهات مؤيدة للاحتلال الإسرائيلي “معادية للسامية”.
إلا أن المتابعين يدركون أن ما حدث يتجاوز “خطأ في التعبير”، ويمثل حلقة جديدة في مسلسل تكميم الأفواه التي تدعم فلسطين حتى في قلب الديمقراطيات الغربية.
غاري لينكر، القائد السابق للمنتخب الإنجليزي، لم يكن مجرد معلق رياضي في هيئة إعلامية حكومية، بل تحول في السنوات الأخيرة إلى صوت أخلاقي يربط الرياضة بالقيم والعدالة.
دعمه الصريح والمتكرر للشعب الفلسطيني، وإدانته لما سماه بـ”السجن المفتوح” في غزة، وضعه مرارًا في مرمى نيران مؤسسات سياسية وإعلامية بريطانية لا تتسامح مع أي انتقاد موجه للاحتلال الإسرائيلي، حتى لو جاء من نجم بحجم لينكر.
منشور.. فغضب.. فإقالة
القصة بدأت عندما نشر لينكر تعليقًا عبر إكس (تويتر سابقًا)، يتضامن فيه مع الفلسطينيين ويصف الهجوم الإسرائيلي على غزة بالإبادة الجماعية، مؤكدًا أن معارضته للعدوان لا تعني معاداته لليهود أو “السامية”، بل هي موقف أخلاقي ضد الاحتلال.
لاحقًا، حذف لينكر المنشور بعد أن قيل له إنه قد يُفهم بطريقة مسيئة، مؤكدًا أن خصومته مع حكومة الاحتلال، لا مع اليهود. لكن ذلك لم يشفع له. فقد كانت الحملة ضده قد انطلقت، وتوالت الضغوط على “بي بي سي” لفصله أو معاقبته.
في البيان الذي أعلن فيه المدير العام لـ”بي بي سي”، تيم ديفي، نهاية العلاقة مع لينكر، أشار إلى أن الأخير “أقر بخطئه”، وأنه لن يظهر على شاشات المؤسسة بعد نهاية هذا الموسم.
إلا أن هذا التبرير لم يقنع الكثير من النشطاء، الذين رأوا في مغادرة لينكر نوعًا من “الإقالة المقنعة”، ومحاولة للالتفاف على موجة الغضب المتصاعدة تجاه المواقف المزدوجة في التعامل مع حرية التعبير في بريطانيا.
بي بي سي.. ازدواجية المعايير باسم الحياد
لطالما دافعت “بي بي سي” عن سياستها التحريرية باعتبارها “محايدة”، وتمنع موظفيها من التعبير عن آرائهم السياسية على المنصات العامة. لكن هذه القاعدة بدت انتقائية عندما تعلق الأمر بفلسطين.
فبينما يُسمح لبعض الإعلاميين البريطانيين بالدفاع عن أوكرانيا أو انتقاد دول كالصين وروسيا وإيران دون مساءلة، يُحاسب من يتضامن مع غزة على أساس “التحريض” أو “معاداة السامية”.
وفي هذا السياق، يشير مراقبون إلى أن ما جرى مع لينكر يشكل استمرارا لنهج غربي متصاعد يستهدف أصواتًا إعلامية وثقافية مؤثرة تتخذ مواقف داعمة للفلسطينيين. فلم تكن قضية لينكر الأولى، فقد سبق أن أُجبر فنانون، ممثلون، وأكاديميون على الاعتذار أو فقدوا عقودهم بسبب مواقفهم تجاه الاحتلال.
دعم ثابت رغم الضغوط.. لينكر لا يعتذر عن المبادئ
على الرغم من كل الضغوط، لم يتراجع لينكر عن موقفه الأخلاقي. فقد شارك سابقًا في حملة نظمها أكثر من 500 إعلامي وشخصية فنية للمطالبة بإعادة عرض فيلم وثائقي عن غزة كانت “بي بي سي” قد حذفته، بعنوان: “غزة: كيف تنجو في محور الحرب”.
وصرّح حينها بشكل مباشر: “نعم، للإسرائيليين الحق في الدفاع عن أنفسهم. لكن يبدو أن الفلسطينيين لا يملكون ذلك – وهنا يكمن الخطأ”.
كما حرص لينكر على التأكيد في أكثر من مناسبة على أن ما يحدث في غزة لا يمكن اختزاله في يوم 7 أكتوبر، بل هو نتاج عقود من الاحتلال والحصار والعنف المنهجي.
هذا النوع من السرد يزعج المؤسسة السياسية البريطانية، التي تبنت في معظمها الرواية الإسرائيلية بعد هجمات أكتوبر، ووصفت أي دعم لحماس أو حتى تضامن مع المدنيين في غزة، كنوع من “التحريض على الإرهاب”.
حين تفضح فلسطين حدود الحرية في الغرب
ما حدث مع غاري لينكر يعيد طرح سؤال جوهري: هل حرية التعبير في الغرب مطلقة كما يُروّج؟ الإجابة التي تقدمها “بي بي سي” ضمنًا هي: لا، ليس إذا تعلّق الأمر بفلسطين.
فتأييد القضية الفلسطينية، ولو من منطلق إنساني بحت، يمكن أن يكلفك وظيفتك، ويجعلك هدفًا لحملات تشويه مدفوعة من لوبيات إعلامية وسياسية نافذة.
لينكر غادر “من الباب الكبير” كما وصفه النشطاء، لأنه اختار الوقوف مع الضحايا، مع قيم العدالة والإنسانية، على حساب امتيازات الشهرة والراتب المرتفع. فحتى وهو الأعلى أجرًا في “بي بي سي”، لم يتردد في فضح صمت المؤسسة تجاه معاناة الفلسطينيين، ولم يتوانَ عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية القصف والدمار والمجازر في قطاع غزة.
خاتمة: صوت لن يُسكت.. ورحيل لن يُنسى
قد يكون لينكر قد غادر “بي بي سي”، لكن صوته سيبقى حاضرًا في فضاء التضامن العالمي مع فلسطين. وربما يتجه في المرحلة القادمة نحو إنتاج محتوى مستقل، عبر بودكاست أو قنوات رقمية، حيث لا سقف فوق حرية الضمير.
أما المؤسسة الإعلامية البريطانية، فقد خسرت أحد أكثر وجوهها مصداقية وتأثيرًا، في لحظة فارقة يتطلب فيها الإعلام ضمائر حرة، لا أقلامًا خاضعة.
اقرأ أيضًا : عملية “عربات جدعون”.. مخطط لتهجير الفلسطينيين وإقامة غيتوهات عنصرية
اضف تعليقا