قطاع صغير.. لكنه عصيّ على الاقتلاع

منذ عقود، وقطاع غزة، هذا الشريط الساحلي الصغير، يتعرض لمحاولات متكررة من الاحتلال الإسرائيلي لاقتلاع أهله وتهجيرهم قسرًا. رغم المساحة الجغرافية المحدودة التي لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، والتعداد السكاني الكبير الذي يجعلها من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، فإن غزة بقيت فلسطينية، صامدة أمام كل المشاريع التي حاولت إجبارها على إفراغها من سكانها. 

باءت جميع تلك المحاولات بالفشل الذريع، وكان رد سكان القطاع على كل مخطط هو النضال والمقاومة بكل السبل، بدءًا من التظاهرات السلمية، مرورًا بالانتفاضات الشعبية، وانتهاءً بالمقاومة المسلحة.

منذ احتلال فلسطين، لم تكن غزة مجرد منطقة عابرة في المخططات الاستعمارية، بل كانت دائمًا في قلب المعركة، مستهدفة بكل أشكال الضغط العسكري والاقتصادي لإجبار أهلها على الرحيل. 

إلا أن غزة أثبتت أنها ليست مجرد جغرافيا يمكن التلاعب بها، بل روحٌ متجذرة في الأرض، تأبى الانكسار أو التفريط.

هبة آزار 1955

في منتصف الخمسينيات، حاولت القوى الاستعمارية تنفيذ أولى مخططات تهجير الفلسطينيين من غزة عبر مشروع توطينهم في شبه جزيرة سيناء، مستغلين حالة البؤس التي كان يعيشها اللاجئون الفلسطينيون الذين هُجّروا قسرًا من مدنهم وقراهم المحتلة عام 1948.

كان المشروع يهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في القطاع، عبر تهجيرهم إلى مناطق جديدة خارج فلسطين، لكن هذه المحاولة قوبلت برفض شعبي واسع النطاق، فيما اندلعت “هبة آزار” عام 1955، عندما خرج الفلسطينيون إلى شوارع غزة في مظاهرات غاضبة ضد المخطط، رافضين أي محاولة لاقتلاعهم من أرضهم.

لم يقتصر الأمر على الاحتجاجات، بل كانت هذه الفترة نقطة انطلاق المقاومة المسلحة في القطاع، رغم قلة العدد حينها، حيث لم يتجاوز سكان غزة 300 ألف نسمة، إلا أنهم استطاعوا إفشال المخطط وإجبار القوى المتآمرة على التراجع. كانت هذه أولى الدروس التي لقّنها الغزيون للاحتلال: غزة لا تُفرّغ، وأهلها لا يرحلون.

نكسة 1967 ومحاولة تهجير 200 ألف فلسطيني

بعد هزيمة العرب في حرب 1967، وجد الاحتلال الإسرائيلي الفرصة سانحة لإعادة طرح فكرة تفريغ قطاع غزة من سكانه، خاصة مع سقوط الضفة الغربية والقطاع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. 

في عام 1968، حاول الاحتلال تنفيذ خطة لتهجير 200 ألف فلسطيني من أهالي القطاع إلى خارج فلسطين، مستغلًا حالة الإحباط التي أصابت الشعوب العربية بعد النكسة.

لكن الفلسطينيين في غزة لم يكونوا مستعدين للاستسلام لهذه المحاولة، فكانت المقاومة المسلحة هي الرد الحاسم على المشروع. بدأ النضال المسلح يأخذ منحىً أكثر تنظيمًا، وواجه الغزيون الجيش الإسرائيلي بالعمليات الفدائية والمواجهات، مما جعل الاحتلال يدرك أن تهجيرهم لن يكون بالأمر السهل، فتراجع عن مخططه، وبقي القطاع فلسطينيًا رغم الاحتلال.

شارون ومحاولة قمع غزة بالحديد والنار 1971

في سبعينيات القرن الماضي، حاول الاحتلال مجددًا تنفيذ عملية تطهير عرقي في قطاع غزة، وكان المهندس الرئيسي لهذه المحاولة هو أرييل شارون، الذي كان آنذاك قائدًا للمنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي.

في عام 1971، أطلق شارون حملة عسكرية واسعة النطاق ضد القطاع، مستهدفًا مخيمات اللاجئين، وعلى رأسها مخيم جباليا، بهدف إجبار سكانها على الهجرة أو النزوح إلى مناطق أخرى.

لكن الغزيين أظهروا صلابة غير متوقعة، ورفضوا الرضوخ للحملة العسكرية، رغم شراستها، حيث استخدم الاحتلال فيها القمع الوحشي، وهدم المنازل، وفرض الحصار على مناطق معينة. 

غير أن كل ذلك لم ينجح، فاضطر الاحتلال في النهاية إلى الاعتراف بفشل مخططه، وبقي الفلسطينيون في أرضهم، رافضين الرحيل رغم آلة الحرب الإسرائيلية.

خطة الجنرالات 2000: محاولة إعادة إحياء مخطط التهجير

مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، بدأت إسرائيل تفكر مجددًا في حلول للتخلص من قطاع غزة. من أبرز تلك الخطط كانت “خطة الجنرالات” التي أعدّها الجنرال الإسرائيلي جيورا أيلاند، والتي تضمنت مقترحًا يقضي بتنازل مصر عن 720 كيلومترًا مربعًا من أراضي سيناء، ليتم توطين الفلسطينيين فيها بدلاً من بقائهم في القطاع.

كان المخطط يهدف إلى تحويل غزة إلى جزء من مصر، وبالتالي إنهاء أي مطالب فلسطينية مستقبلاً باستقلال القطاع أو ارتباطه بالضفة الغربية. لكن هذه الخطة انهارت سريعًا، حيث اصطدمت بالانتفاضة الثانية التي أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، كما رفضتها مصر رسميًا، ما أدى إلى إسقاطها من حسابات الاحتلال.

صفقة القرن 2020: محاولة أمريكية لتصفية غزة سياسيًا

بعد عقود من فشل المخططات الإسرائيلية، جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليحاول تمرير خطة جديدة ضمن ما سُمي بـ”صفقة القرن”، والتي تضمنت رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وجعل غزة جزءًا من حلول إقليمية بديلة، دون أي سيادة فلسطينية حقيقية.

كان أحد السيناريوهات المطروحة في الصفقة هو تنفيذ مشاريع اقتصادية في سيناء بهدف “تخفيف الضغط السكاني” في غزة، أي تصفية تدريجية للوجود الفلسطيني عبر الإغراء الاقتصادي. لكن الفلسطينيين في غزة، ومعهم كافة الفصائل، رفضوا الصفقة جملةً وتفصيلًا، وأثبتت غزة مجددًا أنها عصية على التهجير، كما أفشلت محاولات تصفيتها سياسيًا عبر المقاومة الشعبية والمسلحة.

غزة تُسقط المؤامرات وتبقى فلسطينية

منذ عقود، يحاول الاحتلال وأعوانه اقتلاع غزة من الجغرافيا الفلسطينية، لكن القطاع، رغم مساحته الصغيرة، يثبت في كل مرة أنه أكبر من أن يُحتوى، وأقوى من أن يُكسر. فشلت جميع محاولات التهجير، وبقيت غزة فلسطينية، عربية، عصيّة على كل المخططات، مقاومةً بكل الوسائل، من المظاهرات الشعبية إلى النضال المسلح، ومن المواجهات السياسية إلى الصمود تحت الحصار.

إن كان ثمة درس تُعلّمه غزة للعالم، فهو أن الشعوب المتجذرة في أرضها لا يمكن اقتلاعها، وأن الاحتلال، مهما طال أمده، لن يستطيع فرض معادلاته على من يملكون الإرادة. غزة ستبقى شوكة في حلق المحتل، وستظل قلعة الصمود التي تتحطم على أسوارها كل المؤامرات.

اقرأ أيضًا : ترامب يعد نتنياهو بإسرائيل الكبرى على أنقاض غزة.. ألا يدرك أن أهلها ليسوا الهنود الحمر؟