ضمن سلسلتها المستمرة التي تتبّع مسار الأسلحة الأوروبية في الحرب السودانية، كشفت منصة فرانس 24 Observers، في الجزء الرابع من تحقيقها الاستقصائي، عن الكارثة الإنسانية التي تسبب بها تزويد ميليشيا الدعم السريع بآلاف قذائف الهاون المصنعة في بلغاريا والمموّلة والمهرّبة بواسطة النظام الإماراتي. هذا التحقيق يركّز على النتائج الكارثية لهذه الذخائر التي استخدمتها قوات الدعم السريع لقصف المدنيين بشكل عشوائي، واستهداف الأسواق والمستشفيات ومخيمات النازحين في دارفور ومدن أخرى.

في المقالات السابقة، وثّق فريق التحقيق كيف بدأت الحكاية مع قذائف هاون ظهرت في فيديو صوّره مقاتلون سودانيون بتاريخ 21 نوفمبر 2024، حيث أظهروا شحنة كاملة من الذخائر المتجهة إلى ميليشيا الدعم السريع. التحقيق كشف أن هذه القذائف تم تصنيعها في مصنع بلغاري يُدعى “Dunarit”، ثم تم شراؤها من قبل شركة “International Golden Group”، وهي شركة تابعة للنظام الإماراتي سبق وأن وُثّقت علاقتها بتهريب السلاح إلى مناطق نزاع خاضعة لحظر دولي، خاصة ليبيا والسودان.

في هذا الجزء الجديد من التحقيق تتبع الفريق استخدام هذه الذخائر على الأرض، وتوثيق كيف تم استعمالها لقصف المدنيين، بما فيهم النساء والأطفال، في مناطق مدنية خالصة، بعيدة تمامًا عن ساحات المواجهة العسكرية. الباحث السوداني سليمان بالدو، مؤسس مركز Sudan Transparency and Policy Tracker، يؤكد أن النظام الإماراتي لم يكن مجرد وسيط أو ناقل للأسلحة، بل هو الممول والمجهّز الأساسي لميليشيا الدعم السريع، بالتحالف مع نظام خليفة حفتر في ليبيا.

بالدو أوضح أن معظم الحركات المسلحة في دارفور، بما فيها حركة تحرير السودان التي انضمت لاحقًا إلى القوات المشتركة، كانت تتلقى دعمًا من النظام الإماراتي حين كانت متمركزة في شرق ليبيا، في مناطق تخضع لسيطرة حفتر. هذه الميليشيات خرجت من ليبيا بعد اتفاق جوبا في 2020 محمّلة بما وصفه بـ”هدايا وداع إماراتية”، تضم أسلحة وعتادًا عسكريًا متطورًا. غير أن هذا الدعم انتهى بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، حين تحوّل الدعم الإماراتي وحلفاؤه الليبيون بالكامل نحو ميليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو.

وفي تأكيد إضافي على أن القذائف البلغارية وصلت إلى الميادين السودانية، رصد الفريق الاستقصائي مقاطع فيديو عديدة يظهر فيها مقاتلو الدعم السريع وهم يطلقون قذائف هاون من طراز 120 ملم. إحدى هذه المقاطع نُشرت في سبتمبر 2023 من مدينة أم درمان، حيث ظهر مسلّح يطلق قذيفة هاون، بينما الهاتف الذي يصوره كان مستندًا إلى مجموعة من القذائف التي ظهرت عليها أرقام تصنيع تعود لمصنع “Dunarit”. وبعد فحص حساب TikTok المرتبط بالفيديو، تبيّن أنه تابع لشخص يتابع عدداً كبيراً من الحسابات الخاصة بمقاتلي الدعم السريع أو الداعمة لحميدتي.

في فيديو آخر نشر على الحساب ذاته في 12 سبتمبر 2023، يظهر طفل صغير أمام أحد المطاعم وهو يردد عبارات تمجّد ميليشيا الدعم السريع مثل: “حنحرق القيادة” و”الدولة نحن ولو ما عاجبك”، بينما يُظهر المصوّر إعجابه بهذه العبارات، ما يعكس مستوى التجنيد والتحريض داخل الميليشيا. ومن المهم هنا أن القذائف الظاهرة في الفيديو، والتي تم إطلاقها من قِبل عناصر مجهولة الهوية وقتها، تبيّن لاحقًا أنها مطابقة لنفس القذائف البلغارية التي تم توثيق تهريبها إلى السودان عبر شركة IGG الإماراتية، بل وتحمل نفس أرقام التصنيع لعام 2019، عام توقيع الصفقة.

وبالعودة إلى الخصائص التقنية، فإن قذائف الهاون تعتبر من الأسلحة العشوائية بطبيعتها، كونها تُطلق على أهداف لا يراها المقاتل مباشرة، وتفتقد لأي توجيه دقيق. وهذا يعني أن استخدامها في مناطق مأهولة بالمدنيين يُعد وصفة مؤكدة للمجزرة. الخبير الأممي مايك لويس، عضو سابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالسودان، علّق قائلاً: “إذا أطلقت قذيفة هاون في منطقة تضم مدنيين، فأنت في الغالب ستصيبهم… وهذا النوع من الضرر كان متوقّعًا تمامًا من لحظة تسليم هذه الأسلحة لميليشيا مثل الدعم السريع.” وأضاف لويس أن هناك سجلًا طويلًا في السودان لاستخدام هذا النوع من الأسلحة في مناطق مكتظة بالمدنيين، مشيرًا إلى أن الحرب الحالية تشهد استهدافًا متكررًا للأسواق والمستشفيات والمخيمات بقذائف الهاون، ما يعني أن الضرر ليس فقط عرضيًا، بل يدخل في نطاق الاستراتيجية المعتمدة من قِبل الميليشيا.

وفي مقطع فيديو آخر نُشر في ديسمبر 2024، يظهر أربعة من عناصر الدعم السريع وهم يطلقون قذيفة هاون من عيار 120 ملم في مدينة أم درمان، في خضم مواجهات عنيفة مع الجيش السوداني. وبينما لم تكن القذيفة نفسها من إنتاج Dunarit، فإنها من نفس العيار الذي وُثّق استخدامه في فيديوهات سابقة لذخائر بلغارية الصنع اشتراها النظام الإماراتي.

وبعد نشر هذا الفيديو، سجّلت منظمات سودانية مقتل عشرات المدنيين في قصف مدفعي على المدينة، بينهم 20 طفلًا، بحسب تقارير أولية من الأمم المتحدة، بينما أكدت مصادر محلية أن حافلة كاملة أُصيبت مباشرة بقذيفة، ما أدى إلى مقتل جميع ركابها.

أما في إقليم دارفور، فقد كانت المجازر أكثر وحشية. ميليشيا الدعم السريع استخدمت القذائف نفسها لقصف مخيمات النازحين في الفاشر، وتحديدًا مخيم “أبو شوك”، في 31 ديسمبر 2024. الصور التي شاركتها منظمات إنسانية محلية أظهرت آثار القصف على منازل ومدارس داخل المخيم، وأكّدت مقتل شخص على الأقل وإصابة آخرين. الهجوم تكرر بعد ذلك بأسابيع قليلة، في 24 يناير 2025، حيث سقطت 117 قذيفة على المخيم على مدار اليوم، ما أسفر عن مقتل 8 أشخاص وجرح العشرات.

وأفاد محمد آدم، المسؤول في غرفة طوارئ المخيم، أن الميليشيا كانت تستهدف الأسواق والمدارس والمراكز الصحية عمدًا: “هدفهم أن يجعلوا الحياة مستحيلة هنا، حتى نرحل. يريدون إفراغ المخيم من سكانه لفتح الطريق نحو معسكرات الجيش.”

وتُظهر كل هذه الأدلة أن النظام الإماراتي، عبر شركة IGG، لم يكتفِ بخرق حظر الأسلحة، بل ساهم بشكل مباشر في تمكين ميليشيا متهمة بجرائم حرب من استخدام أسلحة فتاكة ضد المدنيين، في واحدة من أبشع صور التورط الإقليمي في النزاعات الإفريقية.