لا يكاد الجدل حول الإسلام والمسلمين يهدأ في فرنسا، حتى تعود الدولة العَلمانية لتُشعل فتيله مجددًا، عبر تقارير مثيرة، تصريحات رسمية أو تشريعات مشبوهة.
آخر فصول هذه الحملة المستمرة، جاء عبر تقرير حكومي أعلنه وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، بعنوان “الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا”، وسط ترويج إعلامي ضخم قادته الصحف اليمينية المتطرفة.
لكن خلف كل هذا الضجيج، يبرز سؤال جوهري: هل باتت فرنسا رهينة قلق هوياتي يستهدف المسلمين، تغذّيه لوبيات خارجية، وعلى رأسها الإمارات، في إطار صفقات سياسية مريبة تعكس انهيار منظومة القيم الجمهورية؟
التوقيت المريب.. من غزة إلى “الخطر الإسلامي”
التقرير الحكومي المثير للجدل لم يأتِ من فراغ. بل ظهر في لحظة حرجة سياسيًا وإنسانيًا، داخليًا وخارجيًا. ففي الداخل، تواجه حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون أزمة شرعية بسبب تفكك المشهد البرلماني، واستقطاب سياسي حاد على خلفية الانتخابات المرتقبة. أما خارجيًا، فكانت فرنسا تتبنى موقفًا واضحًا -نادرًا ما يحدث- يدين العدوان الإسرائيلي على غزة ويهدد بفرض عقوبات على تل أبيب.
وبينما كان هذا الموقف يحظى بزخم شعبي، جاء الإعلان عن تقرير “الإخوان” لينقل الأنظار من غزة إلى الداخل الفرنسي، ويخلق حالة هستيريا جديدة حول “الانفصالية الإسلامية”. تحوّل مفاجئ في الاهتمام الإعلامي، دفع كثيرين لاعتبار الأمر محاولة “اختطاف” للوعي الجماعي الفرنسي، وتوجيهه نحو عدو داخلي مصطنع، في ظل تنامي الإسلاموفوبيا وتنامي حضور اليمين المتطرف.
مضمون هش.. وتحريض بلا دليل
رغم الضجيج الإعلامي، لم يحمل التقرير أي جديد جوهري، بل أعاد تدوير سرديات قديمة تتحدث عن “خطر الإخوان”، وقدرتهم على اختراق مؤسسات الدولة. المفارقة أن التقرير نفسه أقرّ بأن عدد أعضاء الجماعة في فرنسا لا يتجاوز الـ400 فرد، وهو رقم لا يمكن عقلًا أن يُحدث اختراقًا لدولة كبرى كفرنسا تعدادها السكاني نحو 70 مليونًا.
صحيفة لوموند الفرنسية انتقدت التقرير، واعتبرته خاليًا من المعطيات الجدية، مشيرة إلى تضخيم إعلامي مقصود يقف وراءه تيار يميني متشدد. حتى أن المفكر الفرنسي فرانسوا بورغات، وصف التقرير بأنه “سطحي، مسكون بالإقصاء، ويتبنى رؤية أمنية عربية معادية للإسلاميين”.
ولم يقتصر الأمر على ضعف المحتوى، بل تعدى ذلك إلى اتهام شخصيات وجمعيات مسلمة دون أدلة واضحة، في سلوك يعكس قلقًا هوياتيًا داخليًا، أكثر مما يعكس تهديدًا أمنيًا حقيقيًا.
الإمارات.. الممول الخفي والمحرّك الخطر
ليس سرًا أن دولة الإمارات العربية المتحدة تلعب دورًا متزايدًا في صياغة سرديات معادية للإسلام السياسي في أوروبا، وفرنسا على وجه الخصوص. تقارير فرنسية استقصائية سابقة، نشرتها منصات مثل “أوريان21″، أكدت أن لوبيات إماراتية باتت تملك نفوذًا متغلغلًا داخل دوائر صنع القرار الفرنسية، بما في ذلك مؤسسات البحث ومراكز الدراسات وحتى وسائل الإعلام.
وقد بدا واضحًا أن سردية تقرير “الإخوان” الأخيرة، مستلهمة من خطاب أنظمة تسلطية عربية، وعلى رأسها النظام المصري والإماراتي، حيث يتم خلط الحركات الإسلامية المعتدلة بالإرهاب، ويُستخدم “الخطر الإسلامي” فزاعة لتبرير الاستبداد وتصفية المعارضة.
وبحسب صحيفة لوموند، فإن هناك “بصمات إماراتية” واضحة على التقرير الفرنسي، في ما يشبه التواطؤ بين لوبيات خارجية وتيارات داخلية فرنسية، تسعى إلى شيطنة المسلمين وفرض رؤية إقصائية تتناقض مع مبادئ الجمهورية.
الإسلاموفوبيا المؤسسية.. حين تصبح الجمهورية خائفة من مواطنيها
الخطورة في المشهد الفرنسي الحالي لا تكمن فقط في تقارير مضلّلة أو إعلام يميني شعبوي، بل في تَحول الإسلاموفوبيا إلى سياسة دولة. فقد سبق أن أقرّت فرنسا قانون “مكافحة الانفصالية الإسلامية”، وهو قانون صيغ بطريقة غامضة تتيح للسلطات مطاردة المسلمين ومراقبة مساجدهم وجمعياتهم حتى لو لم يخالفوا القانون.
وما يزيد الطين بلة، أن بعض السياسيين، أمثال وزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان، استخدموا خطاب “الانفصالية” كأداة انتخابية، فيما شارك أكثر من ألف ضابط وجنرال فرنسي في رسالة عام 2021، حذّرت من “انهيار الجمهورية” بسبب “الخطر الإسلامي”، ملوّحين بتدخل الجيش لحماية الدولة!
هكذا تتحول الجمهورية إلى كيان قَلِق من مواطنيها، يشكّك في ولاء ملايين المسلمين الفرنسيين، رغم أنهم جزء أصيل من نسيج الدولة والمجتمع.
مجتمع مفكك.. والجمهورية في مفترق طرق
إن فرنسا اليوم، بعلمانيتها المتشددة، تبدو أكثر اضطرابًا من أي وقت مضى. فبدل أن تكون نموذجًا في التعددية والانفتاح، تغرق الجمهورية في خطاب خوف وهلع وهوس هوياتي. الضواحي أصبحت رمزًا للفقر والتهميش، والفضاء العام يتجزأ بين “فرنسيين أصليين” و”مسلمين تحت المراقبة”.
وإذا استمرت هذه السياسات القائمة على التمييز والتخويف، فإن فرنسا لن تعود قادرة على تماسكها الجمهوري. فالإسلاموفوبيا، التي تحوّلت إلى سياسة دولة، تغذي الشعبوية، وتضعف الديمقراطية، وتقوّض قيم المواطنة والمساواة، وهي ذاتها الأسس التي بُنيت عليها الجمهورية الفرنسية منذ الثورة.
خاتمة: نحو جمهورية متصالحة أم جمهورية منهارة؟
إذا لم تدرك فرنسا أن المسلمين ليسوا تهديدًا بل مكوّنًا أصيلًا في مجتمعها، وإن لم تنفصل عن تحريض أنظمة استبدادية خارجية كالإمارات، فستواصل الغرق في وهم “العدو الداخلي”. حينها، لن يكون الخطر من “الإسلام السياسي”، بل من فشل الجمهورية في احتواء تنوعها، ومن هشاشة ديمقراطيتها أمام هجوم الشعبوية والتحريض.
فرنسا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تحتضن واقعها المتعدد وتنفتح على مستقبل جمهوري قائم على الشراكة، أو تواصل الانحدار نحو جمهورية قلقة، تُديرها تقارير مشبوهة ولوبيات خارجية.
اقرأ أيضًا : الإمارات تغذي المجاعات.. تقرير أممي يحذر: غزة والسودان وسوريا والصومال على شفا الكارثة
اضف تعليقا