تولى “جورج تينت” رئاسة وكالة (CIA ) في فترة تاريخية هامة تمتد من عام 1997 إلى 2004 وقعت خلالها العديد من الاحداث الكبرى مثل إجراء الهند وباكستان لتجاربهما النووية، واندلاع انتفاضة الأقصى عقب زيارة شارون للحرم القدسي عام 2000 ، وتنفيذ تنظيم القاعدة لسلسة هجمات استهدفت المصالح الأمريكية خارج أميركا وداخلها مثل الهجوم على سفارتي أميركا بكينيا وتنزانيا عام 1998، واستهداف المدمرة كول باليمن عام 2000، وهجمات سبتمبر وما تلاها من غزو أميركا لأفغانستان عام 2001، ثم غزو العراق عام 2003 بذريعة البحث عن أسلحة دمار شامل.

اتُهمت آنذاك وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالتقصير في التصدي لتنظيم القاعدة وإحباط هجمات سبتمبر، وبالتسييس لدعمها قرار إدارة بوش بشن الحرب على العراق دون وجود معلومات موثوقة عن حيازة النظام العراقي لأسلحة دمار شامل. مما دفع “تينت” إثر استقالته من منصبه إلى نشر مذكراته عام 2007 بعنوان ( في قلب العاصفة- السنوات التي قضيتها في السي آي إيه) مدافعا فيها عن نفسه وعن الوكالة التي ترأسها لمدة 7 سنوات.  أسعى في هذه التدوينة لتقديم بعض الفوائد التي تضمنتها مذكرات “تينت”.

 

1-أهمية الاستقرار المؤسسي

تولى “تينت” رئاسة الوكالة كخامس مدير لها خلال سبع سنوات، وهو معدل سريع لتغيير المديرين، مما أثر على استمرارية القيادة وأدى لغياب استراتيجيات فعالة للإصلاح الداخلي والتطوير في ظل أجواء تراجع مرت خلالها الوكالة بأسوأ أوضاعها إثر انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، إذ تم تخفيض ميزانيتها، وتقليص عدد العاملين بها بنسبة 25% وتجميد أي تعيينات جديدة، بالتوازي مع تلقيها لضربة معنوية قوية إثر اكتشاف تجسس اثنين من ضباطها البارزين لحساب الروس (آلدرتش آمز عام 1994، وهارولد نيكولسون عام 1996).

 

2- الاستخبارات الأمريكية ليست آلهة

استعرض “تينت” بعض نجاحات الوكالة في عهده، كنجاحها في تفكيك شبكة تجارة الأسرار النووية التي أشرف عليها عالم الذرة الباكستاني “عبدالقدير خان” ، ونجاحها في إدارة ملف التفاوض مع النظام الليبي مما أسفر عن تخليه عن برامج حيازة أسلحة الدمار الشامل، ولكن كشف “تينت” أيضا أن اتساع نشاط الوكالة أدى إلى ثغرات في عملها، حتى أنه كمدير للوكالة كان يعيش في دوامة عمل لا تنتهي، و شبه نفسه بمن يشاهد 8 برامج تلفزيونية في وقت واحد، وذكر أنه أحيانا كان لا يستطيع قراءة ولو الصفحة الأولى من التقارير الإطلاعية المقدمة إليه. كما تعرض “تينت” لنماذج من اخفاقات الوكالة، كعدم تمكنها من معرفة التجارب النووية الهندية عام 1998 سوى بعد وقوعها معللا ذلك بأن البرنامج النووي الهندي مطور محليا وغير مستمد من برامج أجنبية، مما أعاق اكتشافه نظرا لصعوبة جمع معلومات استخبارية عنه.  كما شرح  بالتفصيل كيف أن السي آي إيه فشلت لأخلال بيروقراطية وأخطاء مهنية بسيطة في توقيف اثنين من منفذي هجمات سبتمبر تم الاشتباه  فيهما منذ يناير 2000  إثر رصد اجتماعهما مع آخرين مشبوهين في شقة بالعاصمة الماليزية كوالالمبور.

 

3- أهمية التعاون الاستخباري مع الدول الأخرى

الهالة الأسطورية لوكالة الاستخبارات الأمريكية لم تحل دون اعتماد الوكالة على أجهزة استخبارات الدول الأخرى في العديد من أنشطتها، حتى أن “تينت” سافر 77 رحلة إلى 33 دولة خلال فترة رئاسته للوكالة، بمعدل رحلة في الشهر تقريبا، وقد جاءت السعودية في مقدمة الدول التي زارها عدة مرات. كما أكد “تينت” مشاركة الاستخبارات المصرية والسعودية والأردنية والليبية والسورية والباكستانية مع الوكالة في جهود مكافحة التنظيمات الجهادية. واستعرض بقدر من التفصيل النسبي طبيعة العلاقة بين الوكالة والمخابرات الباكستانية والتوترات مع مديرها الجنرال “محمود” والتي أدت إلى إقالته من منصبه عقب أحداث سبتمبر. كما أورد معلومة مهمة عن وجود 20 عميلا تابعا للاستخبارات الأمريكية يعملون في جهاز مخابرات شرق أوسطي.

 

4- المتابعة الدقيقة للتفاصيل الصغيرة

يستعرض “تينت” عبر كتابه تفاصيل إلقاء القبض على عدد من العناصر المطلوبة في بلدان مختلفة، فيورد قصص القبض على الباكستاني أميل كاسي والفلسطيني أبوزبيدة  واليمني رمزي بن الشيبة والأندونيسي حنبلي، والمصري رفاعي طه، والليبي ابن الشيخ .  كما يكشف اهتمام الوكالة بكتيب للشيخ السعودي “ناصر بن فهد الحمد” تناول فيه حكم استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد غير المسلمين، إذ اعتبرته الوكالة بمثابة فتوى تبيح للقاعدة استخدام تلك الأسلحة، واهتم “تينت” بمتابعة مصير “ناصر” إلى أن تم القبض عليه وظهر على الإعلام السعودي ليتراجع عن بعض فتاويه السابقة.

 

5- الصلة بين الاستخبارات ووسائل الإعلام

أوضح “تينت” كيف يتم توظيف كبرى المجلات والصحف الأمريكية في الصراعات البينية بين الأجهزة الأمنية، فعندما نشرت (مجلة تايم) ملفا بعنوان (المذكرة القنبلة) في 3 يونيو 2002 أوردت فيه اتهامات وجهتها عميلة (الإف بي آي) “كولين راولي” إلى الجهاز الذي تعمل به بالتقصير في التعامل مع مذكرة أعدتها تطالب فيها بتفتيش متعلقات “زكريا الموسوي” المتهم بالضلوع في أحداث سبتمبر إثر القبض عليه قبل الأحداث بشهر، فشعر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي أنه يتم تحميله مسؤولية الإخفاق في احباط هجمات سبتمبر، فسرب المكتب إلى مجلة (نيوزويك) في الأسبوع التالي كيف أن وكالة المخابرات المركزية فشلت في توقيف اثنين من منفذي الهجمات تم رصد علاقتهما بإسلاميين مشبوهين منذ عام 2000.

كما أورد “تينت” كيف أن البيت الأبيض تملص من مسؤوليته عن قرار غزو العراق من خلال التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوش للكاتب الصحفي “بوب ودوارد” عن أنه اتخذ قراره بغزو العراق بعد أن قال له “تينت” إن العراق يحوز أسلحة دمار شامل بشكل مؤكد، وهو ما نشره ودوارد في كتابه (خطة الهجوم) عام 2004، مما دفع تينت للاستقالة من منصبه قائلا ( طالما استُغلت كتب “ودوارد” المعتمدة على معلومات من مسؤولين داخل الإدارة الأمريكية لحرف اتجاه اللوم وإعداد كبش المحرقة، وهو ما حدث لي).

الشاهد أن مذكرات “تينت” مفيدة للغاية إذ تعطي معلومات وافية عن طبيعة مجتمع الاستخبارات الأميركي وعلاقته بالمؤسسات الأمريكية الأخرى مثل الرئاسة ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي، وتبين طبيعة العلاقات الخارجية للوكالة بالدول الأخرى، وكيف تتفاعل تلكم العلاقات أثناء وقوع أحداث كبرى وحروب من قبيل غزو العراق وأفغانستان.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.