ولي العهد السعودي تعهد بمحاربة رجال الدين المتطرفين، إلا أن الواقع أثبت أن معظم الضحايا كانوا من الدعاة المعتدلين

حين تولى محمد بن سلمان ولاية العهد في السعودية في يونيو/حزيران قبل عامين، ، تعهد بتطهير المملكة من الفكر المتطرف وإعادتها إلى “الإسلام الوسطي المعتدل”، والذي صرح أنه تم اختطافه من قبل المتشددين والمتطرفين في 1979، حيث قال “لن نضيع 30 عاماً أخرى من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة، سوف نقضي عليها اليوم”.

لكن على مدار العامين الماضيين، اتضح أن غالبية رجال الدين الذين استهدفهم ولي العهد وأرسل الكثير منهم إلى السجن لم يكونوا سوى دعاة وسطيين معروف عنهم اتباع النهج الإصلاحي المعتدل، الذي يدعو محمد بن سلمان له في الأساس، وفي المقابل يواصل الدعاة المتطرفون والمتشددون عملهم في المملكة بحرية تامة ودون عوائق تذكر.

في سبتمبر/أيلول 2017، قامت قوات الأمن السعودية باعتقال العشرات من رجال الدين والصحفيين والأكاديميين، وعلى مدار العام الماضي، وبحسب مسؤول عربي مقرب من الحكومة السعودية، تم استدعاء حوالي 5000 من رجال الدين، وأجبروا على تقديم تعهدات بعدم انتقاد الحكومة، ليكون هذا دليلاً على تناقض تصريحات بن سلمان مع ما يتم على أرض الواقع، فالحملة التي أعلن عنها لم تستهدف وجهات النظر المتطرفة، بلا قامت بملاحقة معارضي سياساته والذين بإمكانهم حشد الرأي العام ضده -من وجهة نظره-.

هيئة كبار العلماء السعودية، وهي أعلى هيئة دينية رسمية في المملكة، تعتبر خير دليل على ازدواجية بن سلمان، فالهيئة مؤلفة من 21 عضواً، معنيين بتقديم المشورة للملك فيما يتعلق بالمسائل الدينية عن طريق إصدار الفتاوى.

أعضاء الهيئة يتم اختيارهم بصورة مباشرة من قبل الملك، وتُدفع رواتبهم من قبل الحكومة، ومع هذا، هناك عضوان على الأقل معروف عنهم توجهاتهم المتطرفة وآرائهم المتشددة، وهما صالح الفوزان وصالح اللحيدان.

على سبيل المثال، صرح صالح الفوزان- والمعروف أنه يحظى بتقدير كبير من قبل ولي العهد- في عام 2017 للتليفوزيون الحكومي أن الشيعة ليسوا مسلمين، في حين صرح صالح اللحيدان -والذي ترأس السلطة القضائية حتى 2008- ذات مرة ان أصحاب المنافذ الإعلامية التي تبث أي شيء ينتهك المعايير الدينية والأخلاقية يعتبروا من المرتدين عن الإسلام ويجب أن يتم إعدامهم.

وعلى الرغم من أن صالح اللحيدان يعتبر من رجال الدين الأكثر تطرفاً في المملكة، على عكس من أُلقي القبض عليهم في 2017، فإنه يعد من المقربين لمحمد بن سلمان، ولعل هذا بسبب الفتاوى التي يصدرها ويرى بن سلمان أنها تصب في مصلحته.

أصدر اللحيدان العديد من الفتاوى التي تحرم الاحتجاج على الحكام أو حتى انتقادهم علناً، معللين ذلك بأنه سيؤدي إلى حدوث حالة من التمرد قد تُقابل بعنف “مبرر” من الحكام.

وفي 2017، أصدر عبد العزيز الشيخ -المفتي العام للمملكة، العديد من الفتاوى التي تبرز فضائل طاعة أولي الأمر ومدح سياساتهم، وقبل ذلك في 2016 صرح بأنه “يجب على المؤمن أن يحب الحاكم، ويدافع عنه، لا أن يهينه”.

لم يكن اللحيدان والفوزان والشيخ هم رجال الدين الوحيدون الذين دعموا الدولة وحاولوا بكل ما أوتوا من أدوات تبرير الحملات القمعية التي شنها بن سلمان ضد المعارضة والدعاة الوسطيين على أنها محاولات للحد من التطرف الديني.

هناك رجال دين آخرون بذلوا جهوداً كبيرة لثني المواطنين عن انتقاد حكام البلاد، أو ما يعرف في السعودية بأولي الأمر، كما فعل رجل الدين الشهير عبد العزيز الريس، والذي قال في مقطع فيديو واسع الانتشار، أنه حتى لو رأى الجمهور الحاكم في التليفزيون يشرب الخمر ويمارس الزنا “لمدة 30 دقيقة يومياً” -وهي من الكبائر في الإسلام- لا يجوز لأحد انتقاده أو توجيه اللوم له علانية، معتبراً هذا الانتقاد بمثابة التحريض ضد الحاكم.

تتناقض هذه الآراء بشدة مع المعتقدات المعتدلة للعديد من رجال الدين والعلماء الذين انتهى بهم المطاف في السجن، عبد الله المالكي مثلاً، وهو أكاديمي ديني، صرح مراراً وتكراراً بأن سيادة الشعب وحرية اختياره يجب أن تكون لهما الأولوية على أي رغبة في تطبيق الشريعة، وأن العدالة وحرية الاختيار يجب أن تكون دعامات أي مجتمع سياسي.

وكرد فعل من السلطات السعودية التي شعرت بالتهديد من هذا الخطاب، قامت بالقبض عليه في سبتمبر/أيلول 2017، ثم أحالته العام الماضي إلى المحكمة في محاكمة سرية.

الصحفي في الواشنطن بوست جمال خاشقجي، مثال آخر على استبداد النظام السعودي، فقد قتل بوحشية وتم تقطيعه داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين ألمح من بعيد إلى تلك الموضوعات التي تستاء منها السلطات السعودية، كما تم اعتقال آخرين ممن طالبوا بمزيد من المشاركة الشعبية في السياسة أو الديمقراطية ودافعوا عن حقوق الإنسان.

الداعية سلمان العودة، أبرز الدعاة المعتدلين المعتقلين في السعودية، لديه سجل طويل من التصريحات العامة الداعمة للتسامح الديني، وكان من الرافضين لدعوات الجهاد في العراق وسوريا وأماكن أخرى، ومن أهم دعاة إلى التغيير الديمقراطي، وأبرز الداعمين لتمكين المرأة ، ومن أشد المحاربين للعنصرية، ومن أكبر المنادين باحترام الأقليات الدينية المهمشة في المملكة.

في 10 سبتمبر/أيلول 2017، تم القبض على العودة، لم يتم استجوابه منذ اعتقاله حول معتقداته أو نشاطه الديني، بل كانت تهمته هي تغريدة كتبها على حسابه الشخصي على موقع

“تويتر”، والذي يتابعه أكثر من 13 مليون شخصاً، كانت حول الحصار الاقتصادي الذي تفرضه السعودية على قطر، والآن ربما يواجه ا عقوبة الإعدام ليس لأنه متطرف، بل بالأحرى، كما قال خاشقجي ذات مرة، بسبب آرائه التقدمية.

إن الحكومة السعودية تساعد بشكل أو بآخر على خلق بيئة خصبة لزيادة نفوذ الفكر المتطرف والداعين له أمثال صالح الفوزان، وذلك باعتقال ومضايقة وتعذيب الأصوات المعتدلة المدافعة عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، كما تضغط الحكومة على الهيئة القضائية في أحيان كثيرة للحكم عليهم بالإعدام أثناء محاكماتهم في محاكمات سرية تفتقر إلى أدنى معايير المحاكمة العادلة، ويطغى عليها الطابع السياسي، وفي ذات السياق أعلن سياسي سعودي شهير الشهر الماضي أنه سيتم إدراج الناشطات المدافعات عن حقوق المرأة إلى قائمة الإرهابيين في البلاد قريباً.

السياسة الذي يتبعها النظام السعودي تطمس مفهوم الإرهاب عند المواطنين، وتجرم أي احتجاج أو تجمع مدني، خاصة في ظل سنها لقوانين تساوي بين التطرف الحقيقي وبين النشاط الاحتجاجي السلمي، كقانون مكافحة الإرهاب، الذي يعتبر توجيه الانتقاد للحكومة عملاً إرهابياً يستوجب العقاب، وهو ما يزيد الأمر تعقيداً، فحين تدعي الحكومة السعودية الآن أنها تحارب الإرهاب، سيكون من الصعب تحديد أي نوع من الإرهاب تقصد، هل تقصد محاربة التطرف العنيف أم النشاط السلمي؟

يجب على العالم الخارجي عدم غض الطرف عن سياسات ولي العهد السعودي، فما فعله محمد بن سلمان خلال العامين الماضيين ليس له أي علاقة بمحاربة التطرف الديني، بل على العكس، إنه يستهدف النقاد ويضعف الخطاب المستقل الذي لطالما وقف ضد الإرهاب، كما يقوم بتمكين رجال الدين المتطرفين الذين يضفون الشرعية على حملته القمعية.

قد تؤدي هذه السياسة إلى إسكات المنتقدين بصورة مؤقتة، إلا أنها تخلق بيئة من المحتمل أن ينمو فيها التطرف في المملكة العربية السعودية.

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا