لم تخطئ فيروز حين غنتها واصفة لها “بشط الهوى”، إنها ذلك العشق العظيم الذي يتلبسك حين تمر على ثراها، على مد النظر تبدو بهية لا تحتاج مزيدا من الق! حتى تقنعك أنها محطة نوعية تبدأ ولا تنتهي، هذه أول زيارة لي لمصر عموماً وأول زيارة  للإسكندرية لكنها ومن خلال الكتب عرفتها وبالرغم من ذلك ما زالت حاضرة وبقوة في أوج ذكرياتي سعادة وحبور كلما تذكرت مصر.

نسائم البحر ترحب بك في سرور، إحساس عجيب يتملكك حين تسير في شوارعها، تاريخ طويل وأمد غير منته يسير إلى جوارك، من حولك تتقافز الأزمنة، تروح وتجيء في سرد وأبهة وجمال، فرغم قراري بأن أخوض تجربة زيارة مصر دون علم أحد وأن أعيش كالغريب لأسبوع لكن من حولي منعني عن ذلك  فها هو الإسكندر الأكبر يدب بجيشه الجرار مارا من هنا وتاركا أثره واسمه معنونا لها، وها هي هيباتيا بين المعابد الإغريقية تسير وتمر في رشاقة وجمال من قاعة إلى أخرى، الرياضيات تشغلها وعلم الفلك ما زال بها يتوق إلى المزيد.

في الإسكندرية لا أثر لمصر التي أخبرونا بسوؤها الآني، كقطعة من الجنة تبدو، طرقات نظيفة يعقمها ملح من البحر نافر في الأنحاء، معمار لا يمكن وصف إبداعه، في كل مكان تسير فيه يحفك مبنى نابض بالتاريخ كما الحياة، طرازات مختلفة من التصاميم تدل على مدى المزيج الإنساني العاطر الذي مر من هنا، لكنه لم يمر مرور الكرام، بل عشق ذلك المكان إلى ذلك الحد الذي دعاه أن يشيد فيه ثمرة ما توصلت إليه ثقافته من جمال.

أمر في الطرقات هائمة محتضنة كل ما في المكان من عمق وجمال، عبر أحد الميادين الرئيسة أسير حيث “الكورنيش” الذي يطل مباشرة على المتوسط، أغمض عيني وأستنشق ذلك الهواء النقي الذي قطع ربما آلاف الكيلو مترات من هذا البحر المتسع فقط ليصلني، الزحام ها هنا متوفر، والأجواء مثالية لمشي خفيف متأمل.

على يساري وفي منتهى قوس من الساحل تطل قلعة قايتباي كأنها حلم بعيد آت من زمان بعيد غابر، وفي طريقك إليها تمر عبر شريط ساحلي فيه من الرقة والجمال ما فيه، على يساري وفي الطريق إحدى المقاهي الشعبية معنونة بمقهى فاروق، وفي أصل الاسم يقول أحدهم في أربعينيات القرن الماضي وفي أثناء زيارة الملك فاروق للمدينة تراءى له أن يتوقف موكبه لينزل على إحدى المقاهي بين العامة، نزل الملك وجلس بالفعل على هذا المقهى ليصنع له تاريخا وشهرة ما زالتا ملازمتين له إلى الآن.

الوجوه ها هنا ودودة إلى أبعد مدى، الكل يضحك على لكنتي المصرية المختلطة بالشامي وبالكثير من المغربي، هناك سعادة ما واعتزاز يتبديان في كل من يسير حولي إن لم يكن من تواجده على هذا الثرى  فبالتأكيد من انتمائه له، أتقدم إلى الأمام مريدة لقلعة قايتباي لكن المرسي أبو العباس ذلك القطب الصوفي الشهير يجتذبك إلى مقامه الماثل في مسجده الكبير ذو المعمار الهندسي المميز والتاريخي، لتكون على الفور أحد مريديه، على جانبي المسجد تزدحم قباب أخرى لأولياء آخرين، لكن مقام المرسي له ابهة وجلال يجمعانك بلطف لدى شعور مميز حين تتذكر على إثره ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم العطائية الشهيرة والتي ما زالت آثار منها تنبض في قلبي بالمعرفة واليقين والجمال.

أقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة وأمضي مرة أخرى صوب البحر وقوسه الساحلي الذي يبرز في منتهاه حلم جميل ماثل قادم من أزمنة غابرة، ألوذ إلى البحر بكل كياني ينتشلني من أرقي ويعيدني بملحه النافر في الأنحاء نشطة تواقة إلى ملامسة المنتهى البعيد، في الطريق يبرز أمامك مسجد رائع في هيئة معمارية على الطراز الفارسي مكملا في خيالي ذلك المزيج الخصب من تلاقي الثقافات والأجناس ها هنا على هذه الأرض الساحرة.

أخيرا أهتدي إلى ممر صخري متسع في منتهاه تقع القلعة في زهو وسط الماء وعلى بعد كبير من الشاطئ، وكأنهم أرادوا لها حين بنائها أن تكون للبحر ويكون لها، على مدى حقب عديدة ظلت هذه القلعة شاهدةً على البحر ملاصقة له، ربما لم أستغرب حينما علمت أنها شيدت منذ خمسمائة عام في نفس مكان فنار الإسكندرية الذي تهدم والذي كان عجيبة من العجائب السبع للعالم القديم، وكأنها كانت للبحر بمثابة العوض عن رفيق آخر رحل وتبدد بعد أن جالسه قرون وقرون، وهكذا لا شيء يبقى للأبد!

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.