في مشهد يتكرر بوحشية منذ بداية الحرب السودانية، ارتكبت قوات الدعم السريع مجزرة جديدة راح ضحيتها أكثر من 30 مدنيًا في مدينة الفاشر، آخر معقل رئيسي للجيش السوداني في إقليم دارفور. 

وبحسب “لجان المقاومة في الفاشر”، فإن قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، شنت قصفًا مدفعيًا مكثفًا، الأحد، استهدف أحياء سكنية بشكل عشوائي، في تصعيد وحشي لحصارها المتواصل للمدينة.

الهجوم الدموي لم يكن مفاجئًا، بل يندرج ضمن سياسة ممنهجة تنتهجها قوات الدعم السريع منذ بدء الصراع في 15 أبريل/نيسان 2023، حين انقلب الحليفان السابقان، البرهان وحميدتي، على بعضهما البعض في صراع دموي على السلطة، حوّل السودان إلى ساحة حرب مفتوحة. 

لكن الفاشر، التي قاومت السقوط طيلة شهور، تحولت مؤخرًا إلى مسرح لمعركة محورية، لا تتردد فيها المليشيا في استخدام أبشع وسائل التدمير، بما في ذلك قصف الأحياء السكنية والمخيمات المكتظة بالنازحين.

حصار الفاشر ومخيم زمزم.. الإبادة مستمرة وسط صمت دولي

الهجوم الأخير ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع بحق سكان الفاشر. 

المدينة التي تؤوي أكثر من مليون مدني أصبحت هدفًا استراتيجيًا للمليشيا الطامعة في إحكام قبضتها على دارفور بالكامل بعد خسارة الخرطوم، وتسعى إلى استكمال سيطرتها عبر القتل والتهجير.

وفي الأسبوع الماضي، شنّت قوات الدعم السريع هجومًا عنيفًا على مخيمي زمزم وأبو شوك للنازحين، وهما من أكبر المخيمات في غرب السودان، وأسفر الهجوم عن مقتل ما يزيد على 400 شخص، وفق الأمم المتحدة، وفرار نحو 400 ألف من سكان المخيمين، في واحدة من أكبر موجات النزوح منذ بداية الحرب.

وذكرت المنظمة الدولية للهجرة أن مخيم زمزم، الذي كان يؤوي قرابة مليون شخص يعانون أصلاً من الجوع الشديد، أصبح خاليًا بعد اجتياح المليشيا له.

وقد أكدت الأمم المتحدة أن أكثر من 150 ألفًا من هؤلاء النازحين تدفقوا إلى مدينة الفاشر، بينما لجأ نحو 180 ألفًا إلى بلدة “طويلة” الواقعة غرب المدينة. وبذلك تحولت الفاشر من مدينة محاصَرة إلى ساحة تجمع لضحايا الحرب والمجاعة، مع غياب تام لأي تدخل فعّال من المجتمع الدولي.

الدعم الإماراتي للمليشيا.. وقود لحرب الإبادة وصمت دولي مريب

وراء كل هذه الجرائم التي ترتكبها قوات الدعم السريع، تبرز بصمة واضحة للدعم الخارجي، لا سيما من دولة الإمارات، التي وُثّق تورطها في تقديم الدعم اللوجستي والعسكري والمالي لمليشيات حميدتي.

ويؤكد مراقبون أن الدعم الإماراتي، الذي يشمل تزويد الدعم السريع بأسلحة متطورة وشبكات لوجستية عبر تشاد وليبيا، كان حاسمًا في تعزيز قدرات هذه المليشيا على مواصلة حربها الوحشية في دارفور وغيرها من المناطق.

العديد من التقارير الحقوقية والتحقيقات الاستقصائية كانت قد سلطت الضوء على مسارات السلاح الإماراتي الذي يصل إلى قوات حميدتي، سواء عبر مطارات غرب ليبيا أو شبكات تهريب في أفريقيا الوسطى، في ظل صمت دولي مخزٍ وتواطؤ ضمني من بعض العواصم الغربية التي تغض الطرف عن هذا الدور التخريبي لأسباب تتعلق بالمصالح والنفوذ الإقليمي.

ولا تقتصر الجرائم على القصف والقتل فقط، بل تتعداها إلى انتهاكات ممنهجة تشمل التصفية العرقية، والاغتصاب، والسلب، والتجويع المتعمد.

فالحرب في دارفور التي اتخذت طابعًا قبليًا وعنصريًا في بعض محطاتها، تعيد إلى الأذهان جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ذات المليشيات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي كانت سببًا في صدور مذكرات توقيف دولية بحق رموز نظام البشير.

حرب بلا نهاية

دخلت الحرب السودانية عامها الثالث، مخلّفة ما يزيد على 13 مليون نازح، ومئات آلاف القتلى، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية في معظم مناطق البلاد. وبينما يسيطر الجيش على الشمال والوسط والشرق، تسيطر قوات الدعم السريع على دارفور وأجزاء من الجنوب، ما خلق حالة من التقسيم العملي للبلاد.

هذه الحرب، التي بدأت كصراع على النفوذ، تحوّلت اليوم إلى أزمة إنسانية معقدة، تُعد بحسب الأمم المتحدة الأكبر في العالم من حيث أعداد النازحين والمهددين بالجوع. وعلى الرغم من تزايد الدعوات الدولية لوقف الحرب، لا يبدو أن الأطراف الفاعلة في الداخل أو الخارج جادة في إيجاد حل سياسي شامل.

وفي ظل صمت دولي مريب، تواصل المليشيات المدعومة من أبوظبي ارتكاب الفظائع، فيما تستغيث الفاشر، ومعها دارفور كلها، من تحت الركام، دون أن تجد سوى بيانات تنديد خجولة لا توقف قصفًا ولا تُنقذ أرواحًا.

إلى متى سيُترك السودانيون لمصيرهم؟

ما يحدث في الفاشر ليس مجرد قصف، بل جريمة إبادة صريحة ضد مدنيين عُزّل، تديرها مليشيات تمولها قوى إقليمية وتغضّ الطرف عنها عواصم القرار الدولي. وإذا لم يتحرك العالم الآن لوقف نزيف الدم وفرض محاسبة حقيقية على داعمي الحرب، فإن السودان سينزلق إلى هاوية لا قرار لها، وسيكتب التاريخ أن العالم شاهد ولم يتحرك.

اقرأ أيضًا : جريمة بدعم النظام الإماراتي.. حميدتي أمام المحاكمة بتهمة اغتيال والي غرب دارفور