في ظل الظروف الراهنة التي تعصف بالمنطقة العربية، وبعد سلسلة من اللقاءات والتحركات الدولية، يجتمع قادة دول الخليج ومصر والأردن في الرياض، في قمة يُوصفها الإعلام الرسمي بأنها “غير رسمية وأخوية”، لكن الواقع يشير إلى أنها تأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتسارع الخطط الرامية إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، وعلى رأسها المخطط الأمريكي-الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من غزة.
هذا اللقاء، الذي يعقد برعاية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يثير الكثير من التساؤلات حول أهدافه الحقيقية، خاصة في ظل تنامي الدور الإماراتي في تنفيذ خطط الاحتلال بشكل مباشر، وسعي السعودية ومصر للتورط فيها ولكن بأسلوب أكثر تحفظًا خوفًا من ردود الفعل الشعبية.
مخطط التهجير بين العلن والخفاء
لم يكن الحديث عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة مجرد تكهنات، بل أصبح مشروعًا متكامل الأركان يتبناه الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية، وتشارك فيه بعض الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة.
فبينما تتصدر الإمارات المشهد في دعم فكرة “التهجير الطوعي”، التي تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه تدريجيًا عبر إغرائهم بوظائف وفرص اقتصادية في دول الخليج، نجد أن مصر والسعودية تعملان على تحقيق الهدف ذاته ولكن بطرق أخرى.
فمصر، التي كان يُفترض بها أن تكون الملاذ الآمن لأبناء غزة في ظل الأوضاع الكارثية، شددت إجراءاتها الأمنية على معبر رفح، ومنعت دخول الفلسطينيين إلا بشروط تعجيزية، بينما كانت في الوقت نفسه تتفاوض مع الاحتلال حول إمكانية استيعاب أعداد محدودة من المهجرين في مناطق داخل سيناء.
من جهتها، تسعى السعودية للعب دور الضامن الإقليمي لهذا المشروع، عبر توفير غطاء سياسي وإقليمي للمخططات الأمريكية، خاصة مع تسارع خطوات التطبيع التي تقودها الرياض خلال السنوات الأخيرة.
الأردن.. بين الحماية والتواطؤ
العاهل الأردني عبد الله الثاني، كان موقفه أكثر غموضًا في العلن، لكنه في الواقع لا يختلف كثيرًا عن بقية القادة العرب، فرغم تصريحاته الإعلامية التي توحي بالرفض القاطع لأي تهجير للفلسطينيين، إلا أن أفعاله على الأرض تثبت العكس.
فقد فتح أجواء بلاده للطائرات الإسرائيلية خلال العدوان الأخير على غزة، وهو أمر لم يكن ليحدث دون تنسيق مسبق مع الاحتلال.
كما أنه يعد أحد أبرز المشاركين في مشروع “الطريق البري”، الذي يربط الاحتلال الإسرائيلي بدول الخليج عبر الأردن والسعودية، مما يعزز مكانة تل أبيب الاقتصادية ويجعلها جزءًا رئيسيًا من شبكة النقل الإقليمية.
بالإضافة إلى ذلك، لعب الأردن دورًا حاسمًا في دعم منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية من خلال منع أي تهديدات صاروخية من الجبهة الشرقية، خاصة من الجانب الإيراني.
وبذلك، تحول النظام الأردني إلى شريك استراتيجي للاحتلال في تأمين حدوده الشرقية، ما يعكس حجم التواطؤ والتنسيق الأمني بين الجانبين.
السعودية.. قيادة التطبيع تحت غطاء الإصلاح
بالنظر إلى الدور السعودي في التطورات الإقليمية، يمكن ملاحظة أن المملكة لا تكتفي فقط بلعب دور المراقب، بل تعمل بفعالية على تسهيل تنفيذ المخططات الصهيونية بطرق غير مباشرة.
فمنذ وصول ولي العهد محمد بن سلمان إلى السلطة، تسارعت خطوات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، بدءًا من اللقاءات السرية ووصولًا إلى التصريحات العلنية حول “المصلحة المشتركة” بين الجانبين.
وقد تجلى ذلك في حديثه المتكرر عن “ضرورة التعاون الاقتصادي” بين إسرائيل ودول المنطقة.
كما أن الرياض كانت من أوائل العواصم التي رحبت بالمشاريع الاقتصادية التي طرحها الاحتلال كجزء من “صفقة القرن”، بما في ذلك مشروع “نيوم”، الذي يتضمن شراكات استراتيجية مع تل أبيب.
وعلى الصعيد الأمني، سعت المملكة لتقديم نفسها كوسيط إقليمي في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنها في الواقع كانت تعمل على تحجيم المقاومة الفلسطينية وإجبار السلطة الفلسطينية على تقديم تنازلات سياسية كبيرة.
السيسي.. شريك الاحتلال في خنق غزة
عبد الفتاح السيسي، أثبت أنه الحليف الأكثر إخلاصًا للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، فمنذ توليه السلطة بعد الانقلاب العسكري عام 2013، عمل على فرض حصار خانق على قطاع غزة، وأغلق معبر رفح لفترات طويلة، ومنع دخول الإمدادات الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية داخل القطاع.
كما أنه لم يتردد في استخدام ورقة المعابر للضغط على المقاومة الفلسطينية في عدة مناسبات.
لكن الأخطر من ذلك، هو استثماره في معاناة الفلسطينيين عبر مشاريع تجارية مرتبطة برجل الأعمال إبراهيم العرجاني، الذي استحوذ على عقود توريد السلع إلى غزة عبر المعابر التجارية الخاضعة للسيطرة المصرية. وبذلك، لم يكتفِ السيسي بخنق الفلسطينيين سياسيًا وأمنيًا، بل استغل أزمتهم لتحقيق مكاسب اقتصادية، مما يجعله أحد أكبر المستفيدين من استمرار الحصار.
قمة الرياض.. بين التطبيع والتواطؤ
وسط كل هذه التحركات، يأتي اجتماع الرياض كمحطة جديدة في مسلسل التواطؤ العربي مع الاحتلال، إذ يسعى قادة الخليج ومصر والأردن إلى تقديم أنفسهم كشركاء موثوقين في تنفيذ السياسات الأمريكية-الإسرائيلية، سواء عبر دعم مخططات التهجير، أو عبر تأمين المصالح الصهيونية في المنطقة.
ورغم محاولاتهم المستمرة لتجميل هذه الاجتماعات تحت عناوين براقة مثل “التعاون الإقليمي” و”تعزيز الأمن والاستقرار”، إلا أن الحقيقة الواضحة هي أن هذه القمم لا تخدم سوى أجندات الاحتلال.
فالحديث عن “العمل العربي المشترك”، الذي يُروج له المسؤولون السعوديون، لا يتعدى كونه غطاءً لمزيد من التنسيق مع واشنطن وتل أبيب، وهو ما يتجلى بوضوح في جدول أعمال القمة العربية الطارئة المقبلة في مصر، التي يُتوقع أن تكون منصة لإضفاء الشرعية على أي قرارات تتعلق بمستقبل قطاع غزة، سواء عبر مشاريع إعادة الإعمار التي تستفيد منها الشركات الإسرائيلية، أو عبر فرض حلول سياسية تهدف إلى إنهاء المقاومة الفلسطينية.
الخلاصة.. شعوب ترفض وأنظمة تساوم
بينما يجتمع القادة العرب في الرياض لبحث مستقبل القضية الفلسطينية، تظل الشعوب العربية هي الحصن الأخير في مواجهة هذه المؤامرات.
فقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن الرفض الشعبي لأي تطبيع أو تنازل عن حقوق الفلسطينيين لا يزال قويًا، رغم القمع والقيود المفروضة على حرية التعبير.
ومع ذلك، فإن استمرار الأنظمة في هذا النهج الخياني لا يعني سوى أمر واحد: أن المواجهة بين الشعوب وحكامها باتت أمرًا حتميًا، وأن معركة استعادة الكرامة والحقوق لا تزال طويلة، لكنها لم تنتهِ بعد.
في النهاية، تبقى الحقيقة المؤلمة أن هؤلاء الحكام لا يرفضون تهجير الفلسطينيين حبًا في غزة أو دفاعًا عن القضية، بل لأنهم يخشون أن يتحول هذا المخطط إلى شرارة تشعل انتفاضات شعبية تطيح بعروشهم.
لذلك، فإن ما نشهده اليوم ليس سوى تأجيلًا للمواجهة، وليس إلغاءً للمخطط، مما يجعل الأيام القادمة أكثر خطورة على القضية الفلسطينية وعلى مستقبل المنطقة بأكملها.
اقرأ أيضًا : انفجارات تل أبيب تحت المجهر.. بين الفشل الاستخباراتي والتصعيد السياسي
اضف تعليقا