في مشهد سياسي يزداد توتّراً وتعقيداً، جدّدت “جبهة الخلاص الوطني” المعارضة في تونس، اليوم الجمعة، دعوتها لإطلاق سراح زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وذلك بالتزامن مع جلسة محاكمته في ما يُعرف بقضية “المسامرة الرمضانية”، التي أُوقف بسببها في أبريل/نيسان 2023، وسط اتهامات حقوقية بتوظيف القضاء لتصفية الخصوم السياسيين من قبل نظام الرئيس قيس سعيّد.
ملف “المسامرة”.. استهداف بالكلمات لا بالأفعال
الملف الذي يُحاكم فيه الغنوشي يدور حول تصريحات ألقاها خلال جلسة حوارية في رمضان قبل عامين، قال فيها: “الاستئصال سواء تسلّط على الإسلاميين أو اليساريين، فهو مثار لفتنة داخلية”. عبارة وُصفت حينها بأنها دعوة للتسامح السياسي والرفض القطعي لثقافة الإقصاء، لكنها تحولت اليوم إلى تهمة ثقيلة تصنّف ضمن قضايا “المساس بأمن الدولة”، ليجد رئيس البرلمان التونسي السابق نفسه خلف القضبان منذ أكثر من عامين، في واحدة من أكثر المحاكمات إثارة للجدل في عهد ما بعد الثورة.
وخلال جلسة اليوم، قدّم فريق الدفاع عن الغنوشي ورفاقه من قيادات حركة النهضة، بينهم أحمد المشرقي، طلبات للإفراج المؤقت، وأكدت المحامية زينب براهم لـ”عربي21″ أن المحكمة الابتدائية بتونس ستنظر في هذه المطالب، مع تحديد جلسة جديدة لاحقة للنظر في الملف، في وقت لا يزال فيه بعض المتهمين في حالة سراح، وآخرون في السجن منذ شهور.
قمع منهجي ومعارضة تُحاصر
بيان “جبهة الخلاص”، التي تضم طيفاً واسعاً من الأحزاب والحركات المعارضة، لم يكتف بالمطالبة بإطلاق سراح الغنوشي فحسب، بل شمل أيضاً كافة معتقلي الرأي، الذين قالت الجبهة إنهم “سجناء الضمير والفكر”، ووصفت استمرار اعتقالهم بأنه “عار على أي نظام يدّعي احترام القانون والحريات”.
الجبهة استغلت المناسبة لتُجدد دعوتها إلى حوار وطني شامل، يجمع القوى السياسية والاجتماعية، ويناقش سبل الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ إعلان قيس سعيد انقلابه على الدستور في 25 يوليو/تموز 2021، وتعطيله لمؤسسات الدولة وعلى رأسها البرلمان المنتخب.
وأكدت الجبهة أن محاكمة الغنوشي ليست سوى “حلقة من سلسلة استهداف شاملة طالت قيادات سياسية وصحفيين ونشطاء”، مشيرة إلى أن أكثر من 40 شخصية تونسية بارزة حُكم عليها بأحكام مجمّعة تصل إلى أكثر من 700 سنة سجناً، أغلبها في قضايا تتعلق بـ”التآمر على أمن الدولة”، وهي تهم باتت – بحسب المعارضة – بمثابة “سيف مسلط على رقاب كل من يجرؤ على نقد السلطة”.
الغنوشي.. الزعيم المحاصر بين الاستئصال والمحاكمات
منذ توقيفه، يواجه راشد الغنوشي سلسلة من القضايا التي وُصفت بـ”الانتقامية”، أبرزها الحكم الأخير بالسجن 22 عاماً في ملف “أنستالينغو”، وهي شركة اتصال اتُهمت بالتآمر، إلى جانب حكم آخر بالسجن سنة ونصف على خلفية تأبينه أحد مناضلي حركة النهضة، حين قال فيه “قضيت عمرك في مقاومة الطاغوت”، فاعتبرت المحكمة العبارة “تحريضاً على قوات الأمن”.
لكنّ الغنوشي لم يظهر في أي من جلسات المحاكمة، إذ أعلن مقاطعته لها ورفضه الاعتراف بها، معتبراً إياها “مسرحيات سياسية تهدف إلى كسر المعارضة وإرهاب الرأي العام”، وفق تعبيره.
وتُشير جبهة الخلاص إلى أن النظر إلى ملف الغنوشي من زاوية الصراعات الأيديولوجية هو ما يزيد من خطورة المشهد السياسي، معتبرة أن هذا المنطق “أخلّ بتوازنات القوى في البلاد، وأدى إلى صعود الاستبداد من جديد، مهدّداً ما تبقى من مكاسب الثورة ومسار الانتقال الديمقراطي”.
نظام قيس سعيّد.. انقلاب على الثورة باسم الشعب
منذ إعلان “التدابير الاستثنائية” في يوليو 2021، أقدم قيس سعيّد على تفكيك مؤسسات الدولة، وحل البرلمان، ثم صياغة دستور جديد عبر استفتاء وُصف بأنه صوري، فتح بموجبه الطريق لحكم فردي مطلق بلا رقابة ولا معارضة حقيقية. وسرعان ما رافق ذلك حملة اعتقالات واسعة طالت كل خصومه، سواء من الإسلاميين أو اليساريين، حتى باتت تونس تُصنّف من قبل منظمات دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”مراسلون بلا حدود” ضمن الدول “المنحدرة في سلّم الحريات”.
وفي هذا السياق، لم تُخفِ جبهة الخلاص قلقها من استمرار إحكام القبضة الأمنية والقضائية على الحراك السياسي، محذّرة من أن “الدولة البوليسية تعود تدريجياً”، داعية المنظمات الدولية إلى التدخل والضغط من أجل ضمان محاكمة عادلة للموقوفين، وإنهاء الاعتقالات على خلفية الرأي.
خاتمة: تونس بين مفترق طرق
تمثل قضية راشد الغنوشي رمزاً لحالة سياسية أعمق تعيشها تونس: صراع بين مشروع ديمقراطي أنهكته الصراعات الداخلية ولم يكتمل، ومشروع سلطوي يستغل أدوات الدولة لإقصاء خصومه وتأبيد وجوده. وما لم يُفتح باب حوار وطني شامل، كما تطالب جبهة الخلاص، فإن البلاد ماضية نحو مزيد من الانغلاق السياسي، والانهيار الاقتصادي، والعزلة الدولية.
وبينما تتردد أصداء المحاكمات في أروقة العدالة التونسية، يظل الشارع منقسماً، والحقيقة ضائعة بين خطاب السلطة ومناشدات المعارضة، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أيام الاستبداد التي ظنّ التونسيون أنهم طووا صفحتها منذ ثورة 2011.
اقرأ أيضًا : قاضٍ خلف القضبان.. هل تُجهز تونس على ما تبقى من استقلال القضاء؟
اضف تعليقا