في لحظة صادمة بثها مباشرة على “فيسبوك”، حاول الشاب المصري سامح سعودي الانتحار أمام آلاف المتابعين، قائلاً بوضوح: “خرجت من السجن بعدما تأكدوا أني اتدمرت.. فقدت الأمل تمامًا”.
لم تكن هذه الواقعة مجرد حادثة فردية مؤلمة، بل جرس إنذار مخيف يُعيد تسليط الضوء على سلسلة من محاولات الانتحار والانهيارات النفسية التي يعانيها المعتقلون السياسيون في مصر، نتيجة ظروف اعتقال كارثية وواقع قمعي ترعاه سلطات عبد الفتاح السيسي وزبانيته.
فما الذي يدفع معتقلاً سابقاً أو حاليًّا لإنهاء حياته؟ ولماذا تتكرر تلك المآسي؟ وهل تقود الانتهاكات في السجون إلى كارثة إنسانية لا يمكن احتواؤها؟
انتهاكات قاتلة تزرع اليأس وتدفع للانتحار
كشف مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، خلف بيومي، عن ثلاث انتهاكات رئيسية في السجون المصرية تعتبر بمثابة أدوات إعدام بطيء للمعتقل، تدمّر نفسيته وتدفعه للانتحار:
- منع الزيارات والعزلة القاتلة
تعتبر زيارة الأهل بمثابة “شريان حياة” للمعتقل السياسي، تمنحه جرعة من التواصل والأمل، لكن سلطات السيسي حولت هذا الحق الإنساني إلى أداة قمع. فحالات المنع الطويلة من الزيارة، التي قد تمتد لأشهر وسنوات، تدفع بالمعتقل إلى عزلة خانقة يشعر معها أنه غير مرئي، غير موجود، وأنه خُلع من الحياة بلا عودة.
- الإهمال الطبي المتعمد
يتحدث الحقوقيون عن نمط ممنهج من الإهمال الطبي بحق المعتقلين، حيث يُتركون لأمراضهم تنهش أجسادهم دون علاج، مما يزرع لديهم إحساسًا بأنهم سيموتون في الزنزانة.
آخر هذه الحالات كانت محاولة المعتقل محمود عبد الله الانتحار حرقاً في سجن بدر 3 بسبب تجاهل إدارة السجن لوضعه الصحي رغم إصابته بأمراض خطيرة في القلب والكلى، وهو ما أعاد للأذهان عشرات الحالات المشابهة.
- غياب العدالة وفقدان الأمل
الاعتقال دون محاكمة، التدوير المستمر في قضايا وهمية، والحبس الاحتياطي الذي يمتد لسنوات دون مبرر قانوني، كلها عوامل تفقد المعتقل إحساسه بأي أفق للنجاة.
يعيش في ظلام قانوني ونفسي، حيث تتحول الزنزانة إلى قبر بطيء، وكل يوم إلى عقوبة إضافية بلا نهاية.
الانتحار وسيلة “اعتراض يائس”.. أم صرخة لا يسمعها أحد؟
يرى حقوقيون أن الانتحار لدى بعض المعتقلين ليس فقط وسيلة لإنهاء الحياة، بل صرخة احتجاج ضد ظروف لا تُحتمل، تمامًا كما يفعل المعتقلون حين يضربون عن الطعام أو يصرخون في جلسات المحكمة.
كذلك فإن بعض المعتقلين يستخدمون محاولات الانتحار كوسيلة ضغط، لإيصال رسالة واضحة مفادها: “إما أن توقفوا هذا الجحيم أو سأُنهيه بنفسي”.
إلا أن هذا الشكل من الاحتجاج يُقابل بإجراءات انتقامية لا برعاية نفسية أو إصلاح للأوضاع، مما يحوّل الصرخة إلى مأساة حقيقية.
إذ تفيد تقارير حقوقية بأن بعض من حاولوا الانتحار أُعيدوا إلى الزنازين الانفرادية دون علاج، في إمعان واضح بالانتقام من أضعف حلقة في المعادلة.
الاستنزاف النفسي.. حين يُهدم الإنسان في الداخل
بحسب طبيبة الصحة النفسية نهى قاسم، فإن المعتقل السياسي يمر بمراحل نفسية متعاقبة تبدأ منذ لحظة اعتقاله وتنتهي -إن انتهت- بانهيار شامل في وعيه وإرادته.
السجين الجنائي على الأقل يدرك سبب عقوبته، أما السياسي فيجد نفسه ملاحقًا لأنه فكر أو عبّر، ما يولد في داخله شعورًا بالقهر العميق.
قاسم توضح أن هناك ثلاث فئات من المعتقلين تفكر بالانتحار:
- فئة استُنزفت طاقتها النفسية حتى وصلت لحافة الهاوية.
- فئة تستخدم الانتحار كأداة رفض واعٍ للاحتجاز اللاإنساني.
- وفئة تنتمي وراثيًا لطيف الاضطرابات النفسية، فتنهار سريعًا تحت الضغط.
وتضيف أن التجربة في سجون السيسي تختلف لأنها تتضمن تعذيبًا، تجويعًا، عريًا، تهديدًا بالاغتصاب، وعزلة مطلقة، وهو ما يعمّق الجرح النفسي ويجعله ينزف دون توقف.
من الزنزانة إلى الحياة.. معاناة لا تنتهي بالخروج
من يظن أن معاناة المعتقل تنتهي بخروجه من السجن، فهو واهم. تقول قاسم إن الخروج هو بداية لسجن جديد، تُمارس فيه السلطات التنكيل من خلال المتابعة الأمنية المستمرة، والتدوير في قضايا جديدة، والمنع من العمل، والتضييق على الحياة الاجتماعية.
يتحول المعتقل السابق إلى كائن مشكوك فيه، مراقب، غير موثوق، مرفوض من جهات العمل، وموصوم دائمًا بأنه “مجرم سياسي”.
وهنا يبدأ نوع آخر من الانتحار البطيء، تتآكل فيه قدرته على العودة للحياة، وعلى تحمل شعور التقصير تجاه أسرته وأطفاله، وهو ما يؤدي في النهاية إلى أحد أمرين: الانهيار النفسي أو محاولات جديدة للهروب من الواقع.
شهادات الموت البطيء في سجن بدر
ليست شهادات الانتحار حالات نادرة، بل تتزايد بوتيرة مقلقة، في سجن بدر 3 وحده، تم توثيق عدد من الوفيات الغامضة، مثل حالة الشاب محمد هلال الذي نُقل إلى القصر العيني مصابًا بإصابات قاتلة يُرجح أنها نتيجة تعذيب، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ما دفع زملاءه في السجن للإضراب عن الطعام.
وسبق ذلك محاولة المعتقل أحمد محمد عبد العزيز الانتحار أمام النيابة بعد سبع سنوات من الحبس الاحتياطي، بعدما فقد كل أمل في أن يُنظر لملفه بعين العدالة.
تؤكد هذه الوقائع أن النظام المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، لا يدير السجون كمراكز إصلاح وتأهيل، بل كمحارق للبشر، تُجهز على أجسادهم وعقولهم وأرواحهم، في سلسلة لا تتوقف من الانتقام من خصومه السياسيين والمعارضين.
هل تتفاقم الحوادث؟ أم تنتظر مصر “انفجاراً صامتاً”؟
إن استمرار الانتهاكات داخل السجون المصرية دون محاسبة، مع غياب أي دور فاعل للسلطة القضائية أو الرقابة الدولية، ينذر بكارثة إنسانية تلوح في الأفق.
فحالات الانتحار لم تعد فردية، بل تعبير عن بيئة مرضية كاملة، تُنتج المأساة يوميًا وتُغلفها بصمت حديدي.
في دولة تُكمم الأفواه، وتطارد الأحلام، وتقتل الإنسان في داخله قبل جسده، يصبح الانتحار خيارًا “منطقيًا” لبعض المعتقلين.
وحين لا يجد المواطن من ينقذه من آلة القمع، يتحول جسده إلى ساحة احتجاج نهائية.. قد يُطفأ فيها آخر ما تبقى من الحياة.
لكنّ هذا المشهد، مهما طال، لن يدوم. فالصوت الذي يُخنق اليوم قد ينفجر غدًا، وحينها لن يستطيع السيسي ولا زبانيته تكميم كل هذا الألم المكبوت.
اقرأ أيضًا : بطلنا نعدّ.. حين تفقد العائلات الأمل في عودة معتقليها من سجون السيسي
اضف تعليقا