في خطوة أثارت صدى واسعاً في الأوساط الأكاديمية والحقوقية، أعلنت كلية “كينغز” العريقة، التابعة لجامعة كامبريدج البريطانية، سحب استثماراتها من شركات السلاح والشركات المتورطة في الاحتلالات، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
القرار، الذي جاء بعد سلسلة من الاحتجاجات الطلابية الصلبة والمستمرة، عُدّ انتصاراً لحركات المقاطعة في الغرب، ودليلاً جديداً على تنامي الوعي الأخلاقي في المؤسسات التعليمية الغربية، مقابل صمت وتخاذل عربي رسمي بلغ حد الشراكة في بعض الأحيان.
المقاطعة: انتصار أخلاقي رغم التضييق السياسي
بحسب موقع Middle East Eye، فإن قرار “كينغز كامبريدج” يشمل استبعاد الاستثمارات من الشركات المشاركة في أنشطة تنتهك القوانين الدولية والمعايير الأخلاقية، مثل الاحتلال، إضافة إلى مقاطعة شركات تصنيع الأسلحة النووية أو تلك المحظورة دوليًا.
وكانت الكلية قد استثمرت نحو 2.2 مليون جنيه إسترليني في شركات بارزة بصناعة السلاح، مثل “لوكهيد مارتن” و”بي إيه إي سيستمز”، وكلاهما متورط بشكل مباشر في دعم الجيش الإسرائيلي بالسلاح والتكنولوجيا التي تفتك بالمدنيين الفلسطينيين.
هذا الموقف الجريء لا يأتي في فراغ، بل هو ثمرة شهور من الاحتجاجات قادتها مجموعات طلابية أبرزها “كامبريدج من أجل فلسطين”، التي نصبت مخيمات داخل الحرم الجامعي، ونظّمت اعتصامات شملت احتلال مبانٍ إدارية هامة، مطالبة بالشفافية ووقف التمويل الجامعي الموجّه لشركات متورطة في جرائم حرب.
المفارقة أن الجامعة، بدلًا من التجاوب، لجأت في فبراير الماضي إلى القضاء البريطاني، لتحصل على أمر يمنع تنظيم أي احتجاجات متعلقة بفلسطين داخل الحرم حتى نهاية يوليو. غير أن هذا القمع قوبل بمزيد من الضغط الطلابي، وتوقيع مئات الأكاديميين على عريضة اعتبرت الخطوة “اعتداء على حرية التعبير”.
انكشاف النفاق العربي: الجامعات تقاطع والأنظمة تطبّع
في الوقت الذي تسحب فيه مؤسسات أكاديمية عريقة في بريطانيا استثماراتها من شركات داعمة للاحتلال، يواصل عدد من الأنظمة العربية، وخاصة في الخليج، تعميق علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع “إسرائيل”.
فبينما يُقاطع طلاب كامبريدج “لوكهيد مارتن” لدعمها الحرب على غزة، تُبرم دول عربية صفقات ضخمة مع ذات الشركات، وتفتح أبوابها للأسلحة والمستشارين والخبراء العسكريين الإسرائيليين.
هذا التناقض يعري السلوك الرسمي العربي، ويؤكد أن ما يجري على مستوى الحكومات لا يعكس إرادة شعوبها، بل يتنافى معها.
في الوقت الذي تطارد فيه بعض الدول العربية الناشطين الداعمين لفلسطين وتمنع التظاهرات المتعاطفة، نجد أن طالبًا بريطانيًا يعتصم داخل مبنى جامعة يواجه خطر الطرد أو التوقيف فقط لأنه يطالب بوقف دعم الاحتلال!
واللافت أن الجامعات الغربية باتت أكثر تجاوبًا مع ضغط الرأي العام الطلابي، مقارنة بالمؤسسات العربية التي ترفض حتى الاعتراف بوجود استثمارات في “إسرائيل” أو الشركات المتواطئة معها.
ويكفي أن نُشير إلى أن جامعة “ترينيتي”، الأغنى في كامبريدج، كانت قد استثمرت عشرات الآلاف من الدولارات في شركة “إلبيت سيستمز”، وهي الشركة التي تنتج 85% من الطائرات المسيّرة التي يقصف بها الاحتلال الأطفال في غزة، ولم تعلن انسحابها منها رغم حملات المقاطعة داخلها، بل صرح رئيسها أن الجامعة “لا تنوي الانسحاب من شركات السلاح”.
أهمية هذه الخطوة: كسر حلقة التمويل الأخلاقي للاحتلال
قرارات سحب الاستثمارات من الشركات المتواطئة في الاحتلال ليست رمزية فقط، بل تحمل آثارًا مادية مباشرة. فكل انسحاب من صندوق استثمار جامعي هو ضربة اقتصادية ومعنوية للمنظومة التي تُغذي آلة القتل.
الجامعات مثل كامبريدج، بسمعتها العالمية، لا تؤثر فقط على تدفق الأموال بل تضرب في الصميم شرعية تلك الشركات أمام المستثمرين والمؤسسات الأخرى.
كما أن هذه الخطوة تعزز من فعالية حملات المقاطعة (BDS)، التي تسعى منذ سنوات إلى محاصرة الاحتلال دوليًا عبر ضرب مراكز دعمه في الاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا.
وبينما كان يُتهم الداعمون لهذه الحملات بـ”معاداة السامية”، باتت مؤسسات مرموقة مثل كينغز كامبريدج تتبنى ذات المبادئ، في إشارة إلى تغير المزاج العام في الغرب تجاه الاحتلال، خاصة بعد عدوان 7 أكتوبر وما تبعه من مجازر موثقة ضد الفلسطينيين.
خاتمة: حين تنتصر الجامعات ويسقط الحكام
سحب الاستثمارات من شركات السلاح والداعمة للاحتلال ليس مجرد قرار مالي، بل هو فعل أخلاقي وموقف حضاري يعبّر عن يقظة ضمير لم تمت. واللافت أن من يقود هذا الوعي ليس الساسة ولا المؤسسات الدينية ولا الإعلام، بل طلاب صغار في السن، كبار في المبدأ.
وفي المقابل، تتعرى الأنظمة العربية أكثر فأكثر، وهي تلهث خلف التطبيع، وتستقبل الوفود العسكرية، وتضخ الأموال في شركات تصنع الموت لأهل غزة والقدس.
وبينما تصادر بعض الحكومات حرية التعبير عن فلسطين، يثبت الغرب -رغم كل ازدواجيته- أن لدى شعوبه من بقي يقف على الجانب الصحيح من التاريخ.
ويبقى السؤال: متى تتحول الجامعات العربية من صمت القبور إلى منابر للحرية؟ ومتى تقاطع أنظمتنا من يقتلنا بدلًا من توقيع صفقات معه؟
اقرأ أيضًا : مسيرة عالمية إلى معبر رفح لكسر الحصار.. وفضيحة تواطؤ السيسي مع الاحتلال تتجدد
اضف تعليقا