بقلم / الدكتور خالد فؤاد

متخصص في العلاقات الدولية وشئون الطاقة

 

التجاوب عبر تقديم مقترح بديل

حتى نصل إلى إجابه على سؤال معقد كهذا وسط تحولات إقليمية بارزة سيكون علينا تجنب تحديد ماذا يريد ترامب فعلياً، فهو سؤال من الصعب أن نعثر له على إجابة كما هو صعب أن نميز بين تصريحاته التي ينبغي أخذها على محمل الجد وتلك التي تعد مجرد مناورة سياسية. لكن ربما سيكون من الأفضل البحث بشكل عملي عن ما يرضي غرور ترامب أو ما الذي يوقف ضغوط ترامب ويقدم له مقترح يبدو من خلاله أن قد حقق أهدافه أو حقق صفقة اقتصادية ضمن صفقاته التي لن تنتهي. 

لذا فإن التلميح المصري بعدم ذهاب السيسي إلى واشنطن هو تصعيد غير مناسب في مرحلة مبكرة من المواجهة مع ترامب ويبقى التصعيد المتدرج هو السياسة التي من المفترض أن تتخذها مصر في ضوء المتغيرات والمستجدات المتعلقة بالقضية. والمطلوب حاليا هو تقديم عرض بديل وبمعنى أكثر دقة الهدف الرئيسي في تلك اللحظة هو التجاوب الذي لا يعني الموافقة على طرح ترامب ولكن يعني التعامل مع الأمر بجدية واهتمام بغض النظر عن مضمون العرض الذي سيقدم.  

وهنا من المهم أن تقدم مصر عرض بديل والرفض فقط بدون مقترح هو تعقيد وتصعيب للموقف بينما تقديم مقترح من شأنه أن يعيد المشهد مرة أخرى إلى مرحلة التفكير والعروض والمقترحات والابتعاد عن مرحلة التهديدات وتصريحات ترامب المثيرة. وبالنظر إلى تصريحات ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض فيما يتعلق بقضية تهجير الفلسطينيين فسنجد التصريحات والأفكار تتغير وتتبدل وهذا يعني أن الطرح الذي يقدمه ترامب ليس متماسك أو واضح تماماً وأن مقترحات من الأطراف المعنية ربما يتعامل معها بجدية. 

وسأسعى هنا إلى تقديم مقترح أو مناورة يمكن أن تساهم في تخطي هذه المرحلة الصعبة عبر أقل الأضرار بينما سيكون من الضروري فيما بعد بناء سياسة طويلة الأجل لمواجهة مخاطر السياسة الأمريكية والإسرائيلية.  

تطوير حقل غزة مارين.. دبلوماسية الغاز تقدم حل عاجل

بالرغم أن حقل الغاز الطبيعي الفلسطيني “غزة مارين” الذي يقع قبالة سواحل غزة يعد أقدم اكتشاف لحقول الغاز في شرق المتوسط حيث تم اكتشافه في عام 2000، أي قبل عقد من اكتشافات الغاز الضخمة في المنطقة بما يشمل حقل ظهر المصري وحقلي تمار وليفايثان في إسرائيل، ومع ذلك لم يشهد حقل غزة مارين أي أعمال تطوير لاستخراج احتياطات الغاز التي تبلغ أكثر من تريليون قدم مكعب من الغاز وذلك لاعتبارات متعلقة بطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والذي جعل الأخيرة تمنع أي محاولات للاستثمار والاستفادة من الحقل الفلسطيني.  

خلال السنوات الأخيرة كانت هناك محاولات متعددة لتطوير الحقل والاستفادة منه في حل أزمة الكهرباء في الضفة الغربية وقطاع غزة فضلا عن توفير مصادر دخل للسلطة الفلسطينية ولكن كان أبرز تلك الحلول هو ما طرحته مصر في عام 2021 بإمكانية إدارتها وتطويرها للحقل بالمشاركة مع أحد شركات النفط العالمية، وظل الطرح المصري حاضراً على طاولة المفاوضات في أكثر من مناسبة وبدعم أمريكي وتحفظ إسرائيلي، وفي نهاية المطاف وافقت إسرائيل في منتصف عام 2023 بشكل مبدئي على إدارة مصر للحقل مع التزام مصر بضمان عدم استخدام عائدات الغاز لصالح حماس، وبطبيعة الحال توقف الحديث عن المشروع بعد السابع من أكتوبر.

يمكن أن تعيد مصر طرح مقترح إدارتها لحقل غزة مارين في صورة تظهر التزامها العميق بإعادة إعمار غزة وتحسين الأوضاع المعيشية لأهل غزة والأهم من ذلك هو تقديم صفقة اقتصادية لترامب عبر اقتراح مشاركة أعمال تطوير الحقل مع عملاق الطاقة الأمريكي شيفرون وهو المشغل الرئيسي لحقول الغاز الإسرائيلية الكبرى تمار وليفايثان، وصاحب الخبرة في الاستكشاف والإنتاج من المنطقة. يمكن أن يشكل المقترح المصري بإدارة وتطوير الحقل محورا لاتفاقية مربحة لترامب والإدارة الأمريكية أو بمعنى آخر يقدم واحدة من المكافآت أو الصفقات المربحة التي ينتظرها ترامب.

تبلغ التقديرات المبدئية لعائدات الغاز السنوية من حقل غزة مارين حوالي مليار دولار (استثمار يصل لمدة 20 عام على الأقل) وهذا يعني أن تطوير الحقل عبر الإدارة المصرية وبالمشاركة مع شيفرون يمكن أن يساهم بشكل حيوي في جهود الإعمار التي قد تتكلف أكثر من 80 مليار دولار. كما سيساهم المقترح في إعادة تأهيل قطاع الطاقة والتخلص من أزمة الكهرباء المزمنة في القطاع إلى جانب التخفف من أعباء وتكاليف توفير الكهرباء للضفة والقطاع والتي تصل إلى نصف مليار دولار سنوياً. بينما المنظور الأكثر إثارة للاهتمام في هذا المقترح أنه سيمنح شيفرون الأمريكية فرصة توسيع استثماراتها في شرق المتوسط واستغلال البنية التحتية المشتركة في تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

سيقدم المقترح المصري مكاسب لجميع الأطراف وستفتح تلك الخطوة الطريق لتصدير غاز حقل غزة مارين إلى أوروبا وعلى الرغم أن كميات الغاز المصدرة ستكون ضئيلة جدا مقارنة بحجم الاحتياجات الأوروبية ولكن الاستراتيجية التي اعتمدتها أوروبا للتخلص من الغاز الروسي تقتضي تنوع مصادر الغاز والبحث عن كميات -بغض النظر عن حجمها- من مصادر متنوعة وهذا يعني أن تطوير الحقل سيمثل فائدة مهمة لأوروبا. بينما ستستفيد مصر من إمدادات الغاز من الحقل في وقت تعاني فيه مصر من تراجع الإنتاج وتبحث عن مصادر لسد الفجوة بين احتياجاتها وإنتاجها، وكذلك يمكن تسييل جزء من الغاز في مصر للتصدير إلى أوروبا.

قبل السابع من أكتوبر لم تكن غزة تحصل إلا على 40% من احتياجاتها من الكهرباء الأمر الذي كان يتسبب في انقطاع الكهرباء لساعات طويلة خلال اليوم، كما أن نصف هذه الكمية التي كانت تحصل عليها غزة تتوفر من شبكة الكهرباء الإسرائيلية وهي الأداة التي استخدمتها إسرائيل مرارا وتكرارا للضغط على حماس خلال الأزمات والصراعات. إن إدارة مصر لحقل غزة مارين سيعني إدارة تدفقات الغاز لمحطة توليد الكهرباء في غزة بما يوفر للقطاع احتياجاته الرئيسية من الطاقة.

أهداف المقترح المصري

بالتأكيد لا يقدم هذا المقترح تصور كامل لإعادة إعمار غزة سواء وفق وجهة نظر ترامب المعلنة أو وجهة النظر المصرية والعربية والإقليمية لكنه يحقق ثلاث أهداف مركزية ومهمة:

1-إرضاء غرور ترامب 

يعطي المقترح انطباع أن ترامب حقق ما يريد وهذه نقطة لا تبدو بسيطة وغير مهمة مع شخصية ترامب التي تهتم بشكل مبالغ بالظهور في صورة الفائز والأقوى دائما بغض النظر عن تفاصيل المشهد أو الصفقة، كما أن تصريحات ترامب المتأرجحة والمتغيرة والمبهمة في بعض الأحيان تعطي فرصة جيدة لتقديم مقترحات يمكن تفسيرها من جانب ترامب على أنها تحقق أهدافه وتتماشى مع مقترحاته.

2-صفقة اقتصادية ملائمة للاستراتيجية الأمريكية

إن السيطرة أو تأمين مصادر النفط والغاز في الشرق الأوسط كانت ولاتزال أحد الركائز الأساسية التي تستند إليها سياسة واشنطن الإقليمية وبالتأكيد أن هذا العنصر أيضاً يشكل دافع كبير لترامب للمضي قدما في مبادرات سياسية واقتصادية للاستثمار في النفط والغاز في المنطقة، ويواكب المقترح المصري طموحات ترامب الاقتصادية بالتوازي مع السياسة الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط. 

3-شراء الوقت 

الهدف الرئيسي والمركزي هو شراء الوقت وهو الأمر الذي ستكون نتيجته بالتأكيد انشغال ترامب بقضايا أخرى مركزية خاصة المرحلتين الثانية والثالثة من وقف إطلاق النار في غزة والقضايا الأخرى المتعلقة بالصراع مع الصين والحرب الروسية الأوكرانية أو الانتقال من مرحلة الضغط الكبير الذي يمارسه ترامب إلى مرحلة أخرى تتوارى فيها القضية في ظل توقعات بانتقال ترامب إلى مربع جديد وقضية جديدة يمارس فيها نفس النهج وسياسة حافية الهاوية والضغط المستمر على حليف أو خصم آخر. 

بالتوازي مع المقترح المصري من المهم أن تسير حماس في مسار يتوافق مع المقترح وهو ما لا يخالف سياسة حماس فالحركة قبل السابع من أكتوبر أبدت في أكثر من مناسبة التعامل بإيجابية مع طرح إدارة مصر لحقل غزة مارين. إلى جانب ذلك على حماس أن تتنازل عن إخراج مشاهد تسليم الأسرى بالصورة التي اعتادت أن تقدمها في الأسابيع الأخيرة فإذا كانت حماس قد حققت الهدف المنشود من تلك المشاهد فالوقت الراهن لم يعد يحتمل تكراراها والأفضل عدم استفزاز إسرائيل وأمريكا ودفعهم لتصرفات انتقامية تفسد ما حققته حماس وتعقد المشهد في المرحلة القادمة. 

الطريق الطويل يبدأ من هنا..

يقدم هذا المقترح حل عاجل وطارئ للخروج من هذا المأزق التاريخي الصعب ولكن بالتأكيد فإن حلول أخرى خارجية وداخلية يجب أن تتخذها مصر على المدى المتوسط والطويل، فعلى صعيد القضية الفلسطينية والإقليم ستحتاج مصر إلى صياغة سياسة خارجية أكثر جرأة ومغايرة للسنوات الماضية وتتناسب مع المتغيرات الجديدة. وعلى الصعيد الداخلي لم يعد هناك متسع من الوقت للاستمرار في سياسة القمع وتقويض فاعلية المجتمع واستمرار حبس الالاف والقضاء على الحياة السياسية ولعل الوقت الراهن هو الأكثر مناسبة وملائمة للتوقف عن هذه السياسة واتخاذ نهج يمكن مصر من الوقوف أمام مرحلة غير مسبوقة من التحديدات. 

أخيرا الهدف من هذا المقترح أمرين جوهريين غير منفصلين، مصلحة وأمن مصر القومي والقضية الفلسطينية فقط