أثارت الوثيقة المسربة التي نشرها أحد المواقع البريطانية، وتتحدث عن مزاعم انقلاب تدبره وتديره الرئاسة التونسية ضد المؤسسات الدستورية الأخرى، الحكومة ومجلس نواب الشعب.
وقد سُربت هذه الوثيقة في الوقت الذي بدأت فيه ملامح انفراج في الأزمة السياسية بالتلويح في الأفق، لا سيما بعد قبول الرئيس قيس سعيد أواخر الشهر الماضي بالحوار الوطني، وهو ما اعتبره الكثيرون خطوة إيجابية.
وعلى الرغم من أن الوثيقة المسرّبة وضعت الرئاسة مجدداً في محل “إحراج”، فإن الأخيرة نفت صحتها وأي علاقة بها.
سعيد خرج عن صمته بعد عدة أيام من نشر الوثيقة، وأكد خلال لقاء جمعه بوزير الدفاع، إبراهيم البرتاجي، ورئيس الحكومة ووزير الداخلية، هشام المشيشي، أنهم، أي الرئاسة، “ليسوا دعاة انقلاب ولا دعاة خروج عن الشرعية”، بل “دعاة تكامل بين المؤسسات”.
كذلك اعتبر مستشار الرئيس، وليد الحجام، أن توقيت نشر الوثيقة “غير بريء، وتقف وراءه جهات لا تريد الخير لتونس وتعمل على التشويش وعلى ترذيل مؤسسة رئاسة الجمهورية ومس هيبة الدولة.”
كما أضاف أن “الوثيقة المزعومة تتضمن أخطاء شكلية لا يمكن أن تصدر عن الرئاسة ولم ترد عليها، ونحن ننفي نفيا تاما ما ورد في مضمونها، وننزه أنفسنا عن مثل هذه الأساليب التافهة والساذجة”.
- موقف دفاعي..
يبدو أن الرئيس قيس سعيد أراد -من خلال نفي الرئاسة صلتها بالوثيقة- قطع النقاش حول الوثيقة المسربة، حتى لا تذهب التخمينات والتحليلات إلى مذاهب أخرى تضر بالرئاسة، لا سيما فيما يتعلق بالتشكيك في تمسك الرئيس بتطبيق الدستور.
فرغم أن الرئيس أعلن مرارًا وتكرارًا أنه غير متفق مع الدستور الحالي، إلا أنه أقسم على احترامه. وبالتالي، فإن سعيد اليوم -من ناحية سياسية- في موقف دفاعي أمام هذه الحملة، وهو ما يكون قد دفعه إلى استقبال رئيس الحكومة بصفته وزيرًا للداخلية، حتى يعلن حفاظه على التسلسل الوظيفي وتطبيقه للدستور.
قد تؤدي هذه الأحداث، وهذه الزاوية الدفاعية التي يتحرك من خلالها الرئيس في الأزمة، إلى تغيير تكتيكي في لهجة الرئيس، أو انحناء في وجه العاصفة، خصوصًا أنه كان قبل قبل أسبوعين بإجراء حوار وطني للخروج من الأزمة الحالية. لكن هذا لن يغير من حقيقة موقف الرئيس تجاه الحكومة أو البرلمان.
- تغير نسبي..
من جهة أخرى، استهجن مراقبون تأخر الرئاسة في نشر تكذيب أو نفي للوثيقة المسربة، كما اعتبروا أن التغير النسبي في لهجة خطاب الرئيس ليست عفوية، إنما مقصودة بسبب وضعه الدفاعي الحالي، ولا شك أن هناك من نصحه بتغيير اللهجة، خصوصًا أن خطب الرئيس عادة ما تعطي شعورًا بالتشنج والغموض والتهديد، وتقسيم التونسيين كذلك.
وعليه، من المهم الانتظار حتى التأكد من أن التغير النسبي في لهجة الرئيس هو تغيير حقيقي وعميق وصادق تجاه خصومه السياسيين ومنافسيه.
- هدف من سرب الوثيقة..
من وجهة نظر أخرى، يرى بعض المراقبين أن هدف من سرب الوثيقة هو الاستثمار في النزاع السياسي المتأزم في تونس، حيث كانت هناك بوادر حوار بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان في الأسابيع الماضية، ومن شأن هذه التسريبات أن تعرقل هذه الخطوات، بل وتعمق الأزمة أكثر، ومن نشرها لا يريد حدوث توافقات سياسية في البلاد.
ومن حيث لهجة خطاب الرئيس التي اعتبرها البعض اعترافًا ضمنيًَا بعلاقة الرئاسة بالوثيقة، لفت المحلل السياسي، طارق الكحلاوي، إلى أن “من يعتبر أن تصريحات الرّئيس تحمل اعترافات ضمنية بصحة الوثيقة فهو يمارس مغالطات، فسعيد أخذ مسافة من الوثيقة، وقال إنه لا علاقة لها بمؤسسة الرئاسة”.
وأضاف الكحلاوي: “حتى وإن أرسلت الوثيقة من خارج الديوان الرئاسي، فمن الواضح أن من أرسلها أضاف عليها بعض المؤثرات كعبارة سري مطلق (شكليا لا تتطابق مع ما هو معتمد في وثائق الرّئاسة)”.
وفي هذا الصدد، قال المحلل السياسي، كمال الشارني: “صحيح أن الرسالة لا تحمل أي علامة رسمية أو مرجعا إدارياً على مصدرها أو متلقيها، لكنها مثيرة للشبهات والشكوك في ظل اللغط القوي الذي نسمعه عن توسيع صلاحيات الرئيس في قانون الطوارئ والفصل 80 من الدستور، وكان على الرئاسة أن تتبرأ منها بقوة ووضوح”.
- شكوك حول الرئيس..
وأضاف الشارني: “فوجئنا بنصف اعتراف من الرئيس بأن ما يسمى بوثيقة “مشروع الانقلاب” قد تكون تسربت من القصر، وذلك حين هون من مسؤوليتها بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، على أساس أن تلقي رسالة لا يحمل متلقيها مسؤولية ما فيها.”
وأتبع: “شخصيا، لم أستغرب هذا الاعتراف الجزئي حين نتذكر أن الرئاسة لم تسارع بالإعلان عن نيتها مقاضاة مروجي الخبر أو الإشاعة أو عن تتبع الصحيفة البريطانية”.
وأردف: “لم يصل سعيد إلى إقرار واضح بأن هذه الوثيقة تسربت من قصر قرطاج، لكنه قال إن تلقي الرسائل لا يحمله أية مسؤولية، وهو نصف اعتراف بأن هذه الرسالة قد تكون وردت فعلا على مصالح رئاسة الجمهورية.”
وأوضح: “أعتقد أنه (رئيس الجمهورية) لا يجيب على السؤال الحقيقي، وهو هل طلبت الرئاسة مثل تلك الاستشارة من أحد ما؟ وهنا تكمن خطورة المسؤولية”.
- نزاعات داخل قصر قرطاج..
العلاقة بين الرئاسة وبقية مؤسسات الدولة لا تخلو من صراعات مباشرة وغير مباشرة، وهو ما أصبح عاديًا في ظل تأزم الحرب السياسية بين النخب السياسية الحاكمة في البلاد.
تسريب الوثيقة يهدف إلى إحراج الرئيس، وكذلك من حوله من المستشارين والحلفاء السياسيين، بإظهارهم في صورة المتآمرين على الانتقال الديمقراطي، ويعمل على نصب الفخاخ والمكائد لخصومه السياسيين، خصوصا حين يحدث ذلك في ظل الانقلاب على الديموقراطيات الناشئة وآخرها في مالي.
ويعتبر المراقبون أن الصراع داخل القصر الرئاسي موجود، وقد بدأ مع دخول سعيد إلى قصر الرئاسة، ، وتمثل جليا في رحيل مجموعة كبيرة من المستشارين كانوا مقربين من قيس سعيد. وبالرغم من الصمت الذي أحاط باستقالاتهم والتزامهم واجب التحفظ، إلا أن استقالاتهم لا يمكن فهمها إلا أنها نتيجة رئيسة من نتائج الصراعات أو النزاعات داخل القصر.
اضف تعليقا