مع إعلان دونالد ترامب عن مخططه لتطهير غزة عرقيًا من سكانها الفلسطينيين، كان من المفترض أن يكون رد فعل الصحافة الغربية حاسمًا في فضح هذه الجريمة. ولكن، بدلاً من ذلك، شهدنا تغطية إعلامية مشوّهة، تلاعبت بالمصطلحات، وقدّمت تهجير الفلسطينيين وكأنه مشروع تطويري خيري.

بدلاً من تسمية الأمور بمسمياتها، تحولت الصحف ووكالات الأنباء إلى أدوات لإضفاء الشرعية على جريمة حرب واضحة، مستخدمة عناوين تحاول التخفيف من وطأة التهجير القسري وتحويله إلى مقترح تنموي أو صفقة سياسية غير واقعية.

في هذا التقرير، نستعرض كيف ساهمت كبرى الصحف ووكالات الأنباء الغربية في تطبيع التطهير العرقي عبر عناوينها وتقاريرها، وما الذي تعكسه هذه التغطية عن موقف الإعلام الغربي تجاه القضية الفلسطينية.

شبكة BBC :  تلطيف المصطلحات لإخفاء الحقيقة

على الرغم من كون BBC واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية العالمية، فقد جاء عنوانها على الصفحة الرئيسية مخيبًا للآمال:

“Trump suggests US could take over and redevelop Gaza as he hosts Netanyahu”

ترامب يقترح أن تتولى الولايات المتحدة إعادة تطوير غزة أثناء استضافته لنتنياهو

 

أما العنوان الفرعي فكان أكثر تجميلًا لجريمة التهجير القسري:

“The president says the US could take the lead in removing unexploded bombs and rebuilding Gaza after resettling Palestinians in other countries”

الرئيس يقول إن الولايات المتحدة يمكن أن تتولى إزالة القنابل غير المنفجرة وإعادة بناء غزة بعد إعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى

بدلًا من الإشارة إلى التطهير العرقي كجريمة ضد الإنسانية، استُخدمت مصطلحات مثل “يقترح”، “إعادة تطوير”، “إزالة القنابل”، “إعادة بناء”، و”إعادة توطين”، لتقديم المشهد وكأنه مبادرة إنسانية بدلًا من ترحيل قسري جماعي لشعب بأكمله.

التلغراف والتايمز: التطهير العرقي يتحول إلى مشروع سياحي فاخر!

اختارت التلغراف تبني رواية تسويقية لمخطط ترامب، وجاء عنوانها كالتالي:

“Trump offers to turn Gaza into the Riviera of the Middle East”

ترامب يعرض تحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط

أما التايمز، فقد استخدمت العنوان ذاته تقريبًا:

“Trump says US will take over Gaza and make it Riviera of the Middle East”

ترامب يقول إن الولايات المتحدة ستتولى غزة وتحولها إلى ريفييرا الشرق الأوسط

هذه العناوين تحاول تصوير التطهير العرقي وكأنه مشروع استثماري مربح، حيث يتم الحديث عن تحويل غزة إلى “وجهة سياحية” بدلاً من الحديث عن طرد السكان الأصليين بالقوة.

هذه ليست مجرد صياغة مضللة، بل هي تواطؤ مباشر مع الجريمة، حيث يتم تصوير اقتلاع ملايين الفلسطينيين على أنه “فرصة اقتصادية” بدلًا من تسميته جريمة حرب بكل المقاييس.

الإندبندنت: ترامب يريد “امتلاك” غزة!

لم تكن الإندبندنت بعيدة عن هذا النهج، حيث جاء عنوانها كالتالي:

“Trump says US wants to take over Gaza and create a Riviera of the Middle East”

ترامب يقول إن الولايات المتحدة تريد الاستحواذ على غزة وإنشاء ريفييرا الشرق الأوسط

 

أما العنوان الفرعي، فقد حمل طابعًا أكثر تجميلًا للخطة:

“Will own it and be responsible for dismantling unexploded bombs”

سيملكها ويتحمل مسؤولية تفكيك القنابل غير المنفجرة

مرة أخرى، يتم تصوير الجريمة وكأنها مبادرة خيرية، وكأن تهجير الفلسطينيين وإعادة تشكيل مدينتهم عرض استثماري سخي بدلًا من كونه عملية تطهير عرقي موثقة.

 

رويترز: تهجير، لكن بدون الإشارة إلى التطهير العرقي

اختارت رويترز عنوانًا يبدو محايدًا، لكنه في الحقيقة يتجنب وصف الجريمة الحقيقية:

“Trump suggests permanently displacing Palestinians from Gaza”

ترامب يقترح ترحيل الفلسطينيين من غزة بشكل دائم

العنوان يُظهر الواقعة وكأنها قرار إداري بسيط، بينما في الواقع، هو ترحيل قسري لملايين السكان الأصليين، مع ملاحظة أن الصحيفة لم تذكر أي شيء عن التطهير العرقي، ولا أي إشارة إلى أن هذا يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.

نيويورك تايمز: تركيز على “السيطرة” بدلًا من الجريمة

أما نيويورك تايمز، فقد وضعت عنوانًا رئيسيًا يوحي وكأن القضية مجرد تحرك استراتيجي وليس جريمة:

“Trump declares that US should seize control of Gaza”

ترامب يعلن أن الولايات المتحدة يجب أن تسيطر على غزة

وعنوان فرعي

“He says: all two million Palestinians there should be relocated”

يقول إن جميع الفلسطينيين هناك يجب أن يتم نقلهم

لا يوجد أي ذكر للتطهير العرقي، ولا أي إشارة إلى أن هذا الترحيل هو انتهاك للقانون الدولي.

وفي تغطية تحليلية أخرى، جاءت العناوين كما يلي:

“Analysis: with Gaza plan and unbound Trump pushes an improbable idea”

مع خطته لغزة، ترامب يطرح فكرة غير قابلة للتطبيق

هنا، التركيز ليس على الجريمة، بل على مدى “واقعية الفكرة”، وبدلاً من وصفها جريمة إبادة جماعية، يتم تسويق خطته كـ “خطة غير واقعية“!

واشنطن بوست: استحواذ وليس تهجير!

أما واشنطن بوست فقد اختارت العنوان التالي:

“Trump proposes US takeover Gaza”

ترامب يقترح أن تسيطر الولايات المتحدة على غزة

ثم العنوان الفرعي:

“Trump have suggested Gaza should leave the war-torn area and that the US would step in to develop it”

ترامب يقول إن على غزة مغادرة المنطقة التي مزقتها الحرب، وأن الولايات المتحدة ستتولى تطويرها

مرة أخرى، لا ذكر للتطهير العرقي، بل يتم الحديث عن الفلسطينيين وكأنهم مجرد كيان يمكن نقله من مكان إلى آخر، دون الإشارة إلى التاريخ، الحقوق، أو القانون الدولي.

تعكس التغطية الإعلامية الغربية لخطة دونالد ترامب نمطًا خطيرًا من التواطؤ الإعلامي، حيث يتم إعادة صياغة الجرائم بأسلوب يخدم السردية الاستعمارية ويخفي حقيقة ما يجري على الأرض. فقد لجأت وسائل الإعلام الكبرى إلى تحوير المصطلحات، باستخدام كلمات مثل “إعادة التوطين” و”إعادة التطوير” بدلًا من “التهجير القسري” و”التطهير العرقي”، مما ساهم في تقديم الخطة وكأنها مشروع تنموي بدلًا من جريمة حرب.

كما تجاهلت هذه التغطية البعد القانوني لما يحدث، متجاهلة أن التهجير القسري جريمة بموجب القانون الدولي، في حين تم تصوير غزة كأرض بلا شعب عبر الحديث عن “إعادة الإعمار” دون الاعتراف بأن هذه العمليات تتم على أنقاض مدن فلسطينية تم محوها بالكامل وسكان طُردوا قسرًا.

ما حدث في التغطية الإعلامية لهذه القضية ليس مجرد انحياز، بل هو تورط مباشر في تبرير التطهير العرقي، حيث تحولت المؤسسات الإعلامية من كونها جهات مستقلة إلى أدوات تخدم الأجندة الاستعمارية من خلال التلاعب بالرأي العام وإعادة صياغة الجريمة بطريقة تُبعد عنها التوصيف القانوني الصحيح. إن الصحافة التي تعجز عن تسمية الجريمة باسمها لا تصبح فقط شريكة في التغطية عليها، بل تساهم في تسهيل وقوعها واستمرارها.

في وقت يُفترض أن يكون فيه الإعلام صوتًا للعدالة وكاشفًا للجرائم، تحوّلت كُبرى المؤسسات الصحفية إلى منصات دعائية تُعيد صياغة الواقع بما يخدم القوى الاستعمارية ومخططات الإبادة الجماعية.

من لا يصف الجريمة كما هي، يصبح شريكًا فيها.