ربما تكون الاحتجاجات قد انتهت، لكن الأسابيع القليلة الماضية في مصر أشارت إلى أن النظام الذي بناه الرئيس “عبد الفتاح السيسي”، بدلاً من أن يكون نموذجًا للاستقرار الاستبدادي، هو نظام استبدادي هش، وتوحي تصرفات النظام أنه يعرف ذلك بالفعل.

 

في 20 سبتمبر/ أيلول، اندلعت الاحتجاجات السياسية على مستوى البلاد للمرة الأولى في مصر منذ حملة القمع الوحشية ضد المتظاهرين في أعقاب الانقلاب الذي وقع عام 2013 ضد الرئيس “محمد مرسي” والذي وصل “السيسي” بفضله إلى السلطة. وقد اندلعت الاحتجاجات بفضل سلسلة من مقاطع الفيديو تم بثها من قبل ممثل ومقاول مصري يدعى “محمد علي”، والذي كان يعمل في مشاريع البناء مع الجيش لأكثر من عقد.

 

في مقاطع الفيديو، اتهم “علي”، الذي يعيش الآن في المنفى الذاتي في إسبانيا، “السيسي” والجيش بإهدار أموال الدولة في بناء الفنادق الفاخرة والقصور الرئاسية الفخمة. ولقيت الاتهامات صدى عند المصريين الذين يعيش ثلثهم تحت خط الفقر. ومنذ أن وقع “السيسي” خطة إنقاذ مع صندوق النقد الدولي في عام 2016، عانى المصريون أيضًا من سنوات من التقشف.

 

وقرر “السيسي” الرد مباشرة على هذه الاتهامات من خلال مضاعفة حجمها. وأكد أنه كان يبني قصورًا رئاسية بالفعل، بل إنه يعتزم بناء المزيد منها، ليس لنفسه بل لمصر. وقال “السيسي”: في مؤتمر للشباب في منتصف سبتمبر/ أيلول إن كل ما يفعله من أجل مصر.

 

وعلى الرغم من الخطاب الصادم، فإن هذه اللغة تعد سمة للسيسي الذي استجاب لشكاوى ارتفاع أسعار المواد الغذائية من خلال إخبار المصريين أن عليهم فقدان الوزن. وجاء رفض “السيسي” العلني لادعاءات الفساد بعد أسابيع قليلة من إصدار الجيش المصري بيانًا غير مسبوق على فيسبوك، ينكر الشائعات بأنه فتح سلسلة من الصيدليات. وأشار البيان إلى أن الجيش يدرك تمامًا أن حجم إمبراطوريته الاقتصادية المتوسعة في عهد “السيسي” أغضب الكثير من المصريين.

 

ربما بدا “علي” في البداية موضع اتهام بالنسبة للكثيرين، بما في ذلك أعضاء المعارضة المحاصرة، لكن اعتراف” السيسي” أعطى مصداقية لمقاطع فيديو “علي” الاي تغذت على شعور متزايد بالإحباط من رئيس وحكومة أجبرا المصريين على تشديد أحزمتهم والتضحية بمستويات معيشتهم بينما يقوم زعماؤهم بتنفيذ مشاريع ضخمة باهظة الثمن، ويملأون جيوبهم الخاصة في هذه العملية.

 

تدهور شعبية السيسي

 

قبل وقت طويل من ظهور مقاطع الفيديو الخاصة بـ”علي”، تلاشى وضع “السيسي” باعتباره “منقذ” مصر وهو الوضع الذي روجه نفسه منذ انقلابه على “مرسي”. وظهرت أول إشارة على حدوث ذلك مع رد الفعل الشعبي غير المتوقع ضد قراره بتسليم جزيرتي تيران وصنافير على البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية، وهو القرار الذي أغضب حتى مؤيدي “السيسي”.

 

وسرعان ما انخفضت شعبية “السيسي” بشكل أكبر مع أزمة العملة في عام 2016، عندما أدى نقص الدولار والسوق السوداء المتنامية للعملة الصعبة إلى ارتفاع التضخم بسرعة. وأظهرت سلسلة من استطلاعات الرأي آنذاك انخفاضًا في شعبية “السيسي” من 91 في المائة إلى 68 في المائة؛ وذكر المجيبون أن ارتفاع الأسعار هو السبب الرئيسي. وكان شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2016 هو آخر مرة تجرأت فيها شركة الاقتراع، “باسيرا”، على نشر استطلاعات حول “السيسي”. وفي الشهر التالي، تم تعويم الجنيه كجزء من اتفاق مع صندوق النقد الدولي؛ ما تسبب في انهيار قيمة العملة ودفع معدلات التضخم لأكثر من 30 في المئة.

 

تسببت المصاعب الاقتصادية في فقدان الكثير من المصريين صبرهم على رئيس وعد بتحقيق فوائد اقتصادية لم تتحقق أبدا. وعانى المصريون سنوات من التضخم المكون من رقمين، إلى جانب التخفيضات المستمرة والموسعة في الإعانات الحكومية، لا سيما فيما يتعلق بالوقود، مما أدى إلى تفاقم التضخم وتكاليف المعيشة العامة، مع آثار غير مباشرة على أسعار السلع والنقل.

 

حتى الشهر الماضي، ركزت الاحتجاجات القليلة المتناثرة منذ تولي “السيسي” السلطة على المظالم الاقتصادية، مثل الزيادات الكبيرة في أسعار المترو أو الشائعات التي تفيد بخفض دعم الخبز. لكن ما يجعل مظاهرات الشهر الماضي جديرة بالملاحظة هو أنها كانت احتجاجات سياسية على مستوى البلاد دعت “السيسي” إلى الرحيل ونادت سقوط نظامه. وخلال الحملة القمعية التي صاحبت التظاهرات، تم اعتقال أكثر من 3600 شخص، وفقًا للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الصدد هو حقيقة أن هؤلاء المعتقلين ينحدرون من 14 محافظة على الأقل، مما يشير إلى تنامي السخط في جميع أنحاء البلاد.

 

كما اعتقلت السلطات العديد من شخصيات المعارضة البارزة، مثل الزعيم السابق لحزب الدستور، “خالد داود”؛ والمتحدث باسم الحملة الرئاسية للجنرال المتقاعد “سامي عنان”، “حازم حسني”، وكاتب العمود البارز والناقد السياسي “حسن نافعة”. ومن المحتمل أن النظام استهدف شخصيات معارضة لا علاقة لها بالاحتجاجات خشية أن يكون الغضب الشعبي أكثر خطورة إذا أصبح أكثر تنظيما.

 

أكثر خطورة

 

وفي حين قلل الكثيرون، بما في ذلك السلطات المصرية، من عدد المتظاهرين الشهر الماضي، مشيرين إلى أنه لا يمكن اعتبار بضعة آلاف من الأشخاص ممثلين لبلد يبلغ تعدادها نحو 100 مليون نسمة، فإن رد فعل النظام قبل الاحتجاجات وبعدها يشير بوضوح إلى أنه يراها أكثر خطورة بكثير. ويعكس شعور “السيسي” بالحاجة إلى الرد على كلمات “محمد علي” إدراكه أن خطابه لاقى قبولا من جمهور عريض. في الوقت نفسه، قام وزير الدفاع “محمد أحمد زكي” بطمأنة الجمهور بأن الجيش سيحمي الأمة، في حين تم غمر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة بشكل أكثر من المعتاد بالدعاية المؤيدة للسيسي.

 

في الوقت الحالي، يبدو أن السيسي تجنب تصعيد الاضطرابات، لكن السؤال الرئيسي هو ما الدرس الذي سوف يستخلصه منها. وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن “السيسي” عن التزامه بمعالجة مظالم الفقراء في مصر، مضيفًا 1.8 مليون مصري مرة أخرى إلى قوائم الدعم، لكن هذا أبعد ما يكون عن الحد الكافي. وهناك حاجة إلى إصلاحات أكثر عمقا، ومن غير الواضح أن “السيسي” يستطيع تنفيذها. ويتطلب تقاسم موارد مصر بشكل أكثر إنصافا التراجع عن الامتيازات السخية التي منحها “السيسي” لزملائه الضباط لضمان ولائهم، وهذه الامتيازات ليست مكلفة فحسب، ولكنها أضرت بالاقتصاد المصري، مما أدى إلى تفاقم الضغوط على الجمهور. وتجعل شعبية “السيسي” الضعيفة من الصعوبة بمكان المخاطرة بهذا العمود الفقري لنظامه، لذا فإنه ربما يعتقد أن خياره الوحيد هو مضاعفة القمع وحشد المؤيدين له.

 

كلفت سياسات “السيسي” الرئاسية النظام تماسكه وجعلته أكثر هشاشة وقوضت دعمه الشعبي. وفي محاولة لحماية نفسه من الانقلابات، شرع “السيسي” في تفكيك مؤسسات الدولة الضعيفة بالفعل فمن خلال تعديل الدستور لتوسيع سيطرته الشخصية على السلطتين القضائية والتشريعية. لكن ذلك يجعل من الصعب توجيه اللوم إلى المؤسسات الحاكمة الأخرى، ويضع “السيسي” وحده في موقع المسؤولية، ما يجعل شعبيته المتردية تهديدا وجوديا للنظام.

 

على الرغم من أن شعلة “علي” قد أطفأت، إلا أن المجتمع المصري يظل ممتلئًا بالغضب وينتظر الشرارة التالية. ومن خلال تفكيك مؤسسات الدولة وتركيز السلطة في يديه، جعل “السيسي” هشاشة النظام المصري أكثر خطورة. وتعد الاحتجاجات الأخيرة بمثابة تحذير، لكن هل سيستجيب النظام لهذه التحذيرات؟