لقد وضع نظام السيسي سياج محكم من التعقيدات والعقبات في مصر، وذلك بهدف منع الوصول إلى أرقام حقيقية ومفصلة عن أداء الدولة ومؤسساتها، من العمل الحكومي إلى الاقتصاد والعلاقات المدنية العسكرية.
مما وضع ذلك مصر في ذيل مؤشر مدركات الفساد من حيث درجة الشفافية، خاصة وأن سياسة السيسي، منذ اللحظات الأولى لاغتصابه للحكومة عام 2014، اعتمدت على تقليص دور الهيئات الرقابية والبيانات والأرقام الصادرة عنهم، بالإضافة إلى عادة النظام بتزييف الأرقام الخاطئة.
مثلما فعل مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وصولا إلى سحق الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، هشام جنينة، الذي تم الاعتداء عليه والتنكيل به في واقعة لا تنسى.
تتواصل مراقبة واستنكار الوضع في مصر في هذا السياق، حيث أصبح من الصعب على الباحثين الوصول إلى أرقام دقيقة ترصد أداء النظام وتحلل الوضع المجتمعي للجماهير، وتأثيرها على القرارات السياسية والاقتصادية.
في 27 يناير 2022، نشر موقع أوريان 21 الفرنسي تقريرًا صادمًا كشف فيه أن الإحصائيات والأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة المصرية في عهد السيسي كاذبة ولا علاقة لها بالحقيقة والواقع.
قام بإعداد التقرير باحثان، ستيفان رول، رئيس قسم الأبحاث حول إفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) في برلين، وسليمة باتسي، الطالبة الحاصلة على شهادة في العلوم السياسية من جامعة ماربورغ الألمانية.
وذكر التقرير أن “البيانات الاجتماعية والاقتصادية الرسمية في مصر لا تعكس صورة موثوقة لواقع الحياة في البلاد، بل تتضمن عيوبًا كثيرة، ومع ذلك غالبًا ما يتم تبنيها دون أي رؤية نقدية من قبل فاعلين خارجيين”.
واستشهد بقراءات مهمة للحقائق التفصيلية التي أظهرت رؤيته، على سبيل المثال، ذكر كيفية تعامل الحكومة المصرية مع أزمة كورونا، إذ يوضح التقرير أنها سجلت 360 ألف إصابة بينها 22 ألف حالة وفاة، حتى مطلع ديسمبر 2021. لكن الواقع، وفقًا لعدة تحقيقات، يشير إلى أن وفيات مصر بالفيروس تقدر بأكثر من 13 ضعف العدد المعلن.
على الصعيد الاقتصادي، أعلنت الحكومة أن معدل البطالة لعام 2020 بلغ 10.45 بالمئة، وهي نسبة منخفضة بالمعايير الإقليمية، ولا يمكن أن تكون صحيحة. وتعليقًا على هذه الإحصائيات قال التقرير: “المشكلة هنا أن كل شيء يوحي بأن هذه الأرقام التي قدمتها إدارة السيسي كاذبة”.
كما استعرض التقرير طريقة تعامل النظام مع الإفصاح عن ديون مصر الخارجية، ونقل عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن الأرقام المعروضة ليست ثابتة ولا متسقة.
وأضاف أنه من خلال بناء الالتزامات الطارئة على وجه الخصوص، يمكن للحكومة الحصول على أداة جيدة لإخفاء المستوى الحقيقي لديون البلاد، ولا يتم نشر أي معلومات مفصلة عن هذا النوع من الضمان العام.
وأوضح أنه في مقارنة على الصعيد الدولي، ووفقا لآخر جرد للبيانات المتاحة، لا تتميز مصر بتوافر بياناتها، وهي تحتل المرتبة 153 في هذا المجال من أصل 187 دولة، وتبدو القاهرة في حاجة لقانون حول حرية المعلومات لتحقيق شفافية أكبر.
وطوال سنوات حكمه السابقة، أرسى السيسي سياسة عدم نشر أرقام ومعلومات عن ممارساته، وظهر ذلك في 5 فبراير 2020، عندما أحرج اللواء أحمد العزازي، مساعد رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، خلال بث مباشر.
فعندما بدأ اللواء يراجع الأرقام والإحصاءات لبعض المشاريع، غضب السيسي وقال له: “متقولش (لا تقول) أرقام، قبل كده قلت الأرقام وزنقت (ورطت) نفسك”.
وهذا المشهد السياسي ذكر كثيرين بآخر سينمائي مشابه لكن في سياق آخر جاء في فيلم “الزوجة الثانية” الشهير (إنتاج 1967)، عندما أراد عمدة القرية فعل أمر غير قانوني، وفور سماعه اعتراض على ذلك رد بالقول: “الدفاتر دفاترنا والتواريخ في إيدينا، حد هيحاسبنا؟!”.
ولعل هذا ما ساهم في تراجع مصر الملحوظ في تقرير منظمة الشفافية الدولية عن مؤشر مدركات الفساد لعام 2021، والذي صدر في 25 يناير 2022، ولم تكن نتائجه واعدة فيما يتعلق بمكافحة الفساد في مصر.
وجاءت القاهرة في المرتبة 117 من بين 180 دولة، وذكر التقرير أنها لم تحرز أي تقدم يذكر في الحد من مستويات الفساد خلال العقد الماضي، خاصة في ظل جائحة كورونا، وظهور سلالات متحورة من الفيروس.
يستخدم المؤشر، الذي يصنف 180 دولة وإقليم وفقًا للمستويات المتصورة لفساد القطاع العام فيها، مقياسًا من صفر إلى 100، حيث يكون الصفر هو الأكثر فسادًا و 100 هو الأكثر حيادية، ومصر حصلت على 33 درجة، مقارنة بـ 35 درجة في 2020.
وكشف التقرير أن الدول التي تحقق أداءً جيدًا في المؤشر تستثمر أكثر في الرعاية الصحية، وهي أكثر قدرة على توفير تغطية شاملة وأقل عرضة لانتهاك القواعد الديمقراطية أو سيادة القانون عند الاستجابة للأزمات، وهو الأمر الذي ابتعدت عنه مصر بشدة في عهد السيسي.
يعد الجهاز المركزي المصري للمحاسبات هيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية عامة تتبع رئيس الجمهورية، وتهدف أساسًا إلى تحقيق الرقابة على أموال الدولة وأموال الأشخاص العامة الأخرى وغيرهم من الأشخاص المنصوص عليهم في القانون. كما يساعد الجهاز المركزي مجلسَ النواب في القيام بواجباته في هذه الرقابة، بحسب ما ورد في الموقع الرسمي للجهاز.
لكن السيسي كان له رأي مختلف في التعامل مع الجهاز المركزي ورئيسها السابق المستشار هشام جنينة، والذي كشف في مطلع عام 2019 عن حيازته لوثائق وصفها بـ “بئر أسرار” تحتوي على وثائق وأدلة تدين العديد من القادة الحاكمين في البلاد.
وأعرب جنينة عن مخاوفه، محذرًا في نفس الوقت من أنه في حالة تعرضه لأذى، ستظهر الوثائق الخطيرة التي بحوزته ويحتفظ بها مع أشخاص خارج مصر.
وهو التصريح الذي اعتُقل جنينة على أثره، بعد الاعتداء عليه، وسحله من قبل مجموعة من “البلطجية” التابعين للنظام. قبل أن يتم القبض عليه وتقضي محكمة الجنح العسكرية في نيسان /أبريل 2019 بحبسه خمس سنوات بتهمة بث أخبار مسيئة.
وقد أثبتت هذه الأحداث بما لا يدع مجالًا للشك أن هناك أرقامًا ووثائق تؤكد تورط السيسي في حوادث فساد متعددة، ولا سبيل لوقفها إلا بتقليص دور الهيئات الرقابية وسن تشريعات وخطط للحد من سيل الأرقام التي قد تسبب له الأذى والاضطراب له ولنظامه الحاكم.
وتعليقًا على هذا الوضع، يؤكد الباحث الاقتصادي المصري، أحمد يوسف أن “آلية الأنظمة الغارقة في الاستبداد تعتمد بالدرجة الأولى على نشر الجهل ومحاربة العلم والمعلومات”. ويقول أيضًا إنه “لو نظرنا إلى العالم اليوم سنجد فقط أن أشد الدول قسوة، وبقايا الأنظمة العسكرية، تتبنى هذا النهج سواء في كوريا الشمالية أو سوريا أو إيران، وبالتبعية مصر ومعظم أنظمة الشرق الأوسط “.
ويضيف أن “الغريب أن الحكومة المصرية تفعل ذلك في ظل عالم حديث متقدم يمكنه مراقبة الأرقام وتحديد دقتها”.
وذكر أيضًا أن “الاقتصاد عبارة عن أرقام وإحصاءات، ومعدل الديون الداخلية والخارجية، والتضخم، والموازنة العامة، وتحرير سعر الصرف، بالإضافة إلى أزمات الفقر والفقر المدقع والبطالة وتراجع الاحتياطي النقدي، وكلها قضايا تدور في إطار أرقام لا يمكن فصلها أو طرح عطاءات من أي نوع “.
ويوضح أنه “بمجرد الكشف عن هذه المعلومات، فإنها تتسبب في أزمات محلية ودولية للنظام، الأمر الذي يبشر دائمًا بطفرات تنموية وإنجازات كبيرة تؤسس لما يسميه الجمهورية الجديدة”.
ويستدرك الباحث الاقتصادي: لذا يسعى السيسي إلى حجب المعلومات ومنع تداولها، وتحجيم دور الأجهزة الرقابية المملوكة للدولة، وتحويلها إلى جيتوهات منعزلة، غائبة عن المشهد والدور المنوط بها”.
وبحسب يوسف، فإن السيسي يريد أن يكون المصدر الوحيد للمعلومات والأخبار، لدرجة أنه جاء ليقول بصراحة (متسمعوش كلام حد غيري)، بالإضافة إلى تحجيمه للجهات الرقابية، حيث قام بتفصيل الهيئتين التشريعية والتنفيذية “.
وأضاف أنه “لا يوجد برلمان أو سلطة قادرة على الكشف والمحاسبة، وهو أمر يهدد الأمن القومي المصري على المدى الطويل، خاصة فيما يتعلق بالفساد والسرقة، وهذه نقرة أخرى لها ما وراءها، فميزانية الرئاسة والجيش ورواتب الضباط، ومصاريف السيسي وأسرته، كلها خط أحمر لا يستطيع أحد في مصر تجاوزه”.
اضف تعليقا