تريكة وصلاح.. العهد و الوعد

عندما ارتمى اللاعب محمد صلاح على أرضية ملعب برج العرب مصدوما ووجهه للأرض، لحظة تسجيل منتخب الكونغو هدف التعادل في مرمى المنتخب المصري بالدقيقة 87 من عمر المباراة، بالتأكيد كانت صدمة إمكانية ضياع الحلم مجددا مؤلمة بالنسبة له، فالهدف جاء في توقبت قاتل، ولم يتبق من عمر المباراة الأصلي سوى ثلاث دقائق.

صلاح بعد هدف الكونغو

صلاح بعد هدف الكونغو

يجزم البعض أن خلال تلك اللحظات التي كان فيها “صلاح” وجهه للأرض، كان عقله يسترجع جيدا تفاصيل لحظات حزينة جمعته باللاعب الأسطورة محمد أبو تريكة، يوم 15 أكتوبر 2013، بعد هزيمة المنتخب المصري الثقيلة من نظيره الغاني في كوماسي بنتيجة 6 أهداف لهدف.

حينها، وبعد نهاية المباراة، كان الحزن ينهش قلب “صلاح”، لكن “تريكة” تقدم ومسح على وجهه، قبل أن يحتضنه قائلا: “متزعلش ياصلاح.. إنت لسه صغير وإن شاء الله إنت اللي هتفرح الناس وتوصل مصر كاس العالم”، حينها اعتبر اللاعب أن عليه عهدا لـ”تريكة” يجب تنفيذه، مهما كلف الأمر.

مثَّل الأمر على “صلاح” التزاما إضافيا شديد الأهمية، بالإضافة إلى التزامه الأساسي إحراز الفرحة لملايين المصريين الذين يحلمون بمنتخبهم في كأس العالم، إضافة للوفاء لـ”تريكة”، الذي يعتبره صلاح مثله الأعلى، منذ بداية احترافه في “بازل” السويسري، كما قال في تصريحات من قبل.

محمد صلاح وأبو تريكة

محمد صلاح وأبو تريكة

الوضع تغير

لكن، وبعد 4 سنوات، من تحقق نبوءة “تريكة” ووفاء صلاح بالوعد، تبقى فرحة اللقاء غائبة، فالأول بات مصنفا كإرهابي بشكل رسمي في مصر، بعد أن تم وضع اسمه ضمن قوائم الإرهاب، التي ضمت عددا كبيرا من معارضي نظام عبدالفتاح السيسي، وتمت مصادر أمواله، ومسح تاريخه المبهر مع المنتخب المصري والنادي الأهلي “بأوامر سيادية”، وإن كانت الجماهير المصرية الوفية تأبى مسح رصيد صاحب الرقم 22 من ذاكرتها.

أبو تريكة

أبو تريكة

الثاني “صلاح”، يرى كثيرون أن مصير “أبو تريكة” كان يراوده، بعد أن تم التحرش به من النظام المصري، بسبب انزعاج دوائر داخل السلطة من أقاويل و”تحريات” أفادت بميول دينية واضحة لـ”صلاح”، وتقليد لـ”أبو تريكة” في التعامل مع زملائه وأهل بلده، والمواظبة على قراءة القرآن وخلافه من تلك المظاهر التي باتت مزعجة للنظام، خاصة عندما يكون صاحبها ناجحا ومميزا في حياته العملية، كـ”تريكة”، و”صلاح”.

محمد صلاح وصلته الرسالة سريعا، ولأنه محترف لم يشأ أن يسمح لهم باغتياله معنويا، وهو في تلك السن، لا سيما أن أهله لا يزالون في مصر ويرفضون تركها، فمد يده في جيبه مخرجا خمسة ملايين من الجنيهات، حولها بالعملة الأجنبية، وبعث بها كتبرع لصندوق “تحيا مصر”، الذي أنشأه السيسي لجباية الأموال من رجال الأعمال والمقتدرين المؤيدين تحت مسمى التبرعات، وما إن تناقلت وسائل الإعلام المقربة من السلطة خبر التبرع بحفاوة، تنفس صلاح الصعداء.

اللاعب الشاب الطموح كان – ولا يزال – موضوعا تحت دائرة التحري الأمني المشدد، بعد التقارب الكبير مع “أبو تريكة”، منذ 2013 وما قبلها، ومنذ اللحظة التي خصه فيها “تريكة” بالوعد والعهد، قرر النظام أن يعاملهما كإرهابيين محتملين إلى أن يثبت العكس، وإن كان “صلاح” قد “افتدى نفسه” بالخمسة ملايين جنيه في صندوق السيسي، فإن “تريكة” رفض ذلك، لاعتبارات أخرى، أبرزها أنه لم يعد يحتاج منهم نفس ما يحتاجه صلاح، فمسيرته الكروية انتهت، وأرض الله واسعة.

محمد صلاح مع السيسي

محمد صلاح مع السيسي

فرحة لم تغيب “الوعي”

ثمة شيء مميز نفذته الجماهير المصرية، قبل المباراة وبعدها، ويرى الكثيرون أنه تم تنفيذه بنجاح، وهو الرفض القاطع والشديد لمحاولة الدوائر الإعلامة والسياسية للنظام تحويل الإنجاز الرياضي إلى سياسي، ومحاولة تنظيم حملة بالتأكيد كانت منظمة من دوائر المخابرات المتحكمة في وسائل الإعلام، لاستغلال الحدث التاريخي لإعادة تلميع السيسي، بعد سنوات من خفوت بريقه بسبب تراكم الأوساخ على الهالة التي كان يصنعها لنفسه، كحاكم جاء ليحنو على شعب لم يجد من يحنو عليه.

الفوز للاعبين والفرحة للشعب والإنجاز للرئيس.. معادلة رفضت الجماهير شقها الأخير بإصرار، وقبل انطلاق المباراة كانت وسائل التواصل الاجتماعي ملتهبة، لكن ما جمعها كان التحذير الشديد من الجماهير باستغلال فوز المنتخب المنتظر في تلميع الرئيس والنظام والحكومة، الأمر كان عاكسا لحالة مرتفعة وغير مسبوقة من الوعي شكلتها 4 سنوات عجاف رأى المصريون فيها، لا سيما الشباب، أياما حالكة، وذاقوا المر دون أن يجدوا العسل الذي تحته، كما وعدهم السيسي.

اصمتوا

حتى الأصوات المؤيدة للنظام على مواقع التواصل لم تجرؤ قبل المباراة على ضرب هذه الزاوية، فحالة التحفز الجماهيري ضدها كانت عالية، بشهادة كثير من المتخصصين والراصدين لتلك المواقع، بعد المباراة حاول المؤيدون على استحياء شن غزوة تلميع للنظام والرئيس، قوبلت برد أعنف من الجماهير التي صبت جام سخريتها على تلك المحاولات، وتكفي جولة سريعة على صفحات الكوميكس الساخرة الشهيرة لمشاهدة التفاصيل.

 

الإعلام المصري يحتفل بفوز المنتخب

الإعلام المصري يحتفل بفوز المنتخب

حالة الرقص الهيستيري و”الطبل والمزمار” التي شهدتها ستوديوهات التوك شو بعد المباراة لم تغير من الأمر شيئا، كان عمرو أديب يقف وسط جوقته يهز رأسه على وقع الطبول كمن في حفلة زار لإخراج الجان، بينما شرع أحمد موسى في الرقص بطريقة مضحكة، وهو يرتدي “تي شيرت” المنتخب، لكنه كان ضيقا فأبرز تفاصيل “كرشه” المترهل، وكان وجبة دسمة للسخرية على مواقع التواصل، بينما اكتفت لميس الحديدي بارتداء “تي شيرت” الفريق المصري أيضا وإجراء لقاءات مع الضيوف.

الفرحة في الشوارع، بعد المباراة، كانت عفوية وبعيدة عن السياسية، هي فرحة كان ينتظرها الناس، وسط أيام نكدة، فقط أعلام مصر وصور بعض اللاعبين تم رفعها، لم تسجل – تقريبا – أية واقعة لرفع صور السيسي أو رموز نظامه.

محللون يرون فيما سبق حالة رفض جماهيري جديدة وتأطير منضبط للفرحة، واعتبار أن الإنجاز فقط حققه أهله، وليس للمنتفعين نصيب منه، وهي حالة “وعي” أريد لها أن تغيب تحت نشوة الفرحة، لكنها ازدادت وحضرت بالتوازي معها.

رغم ذلك، لا يتوقع أن تتوقف الحملة الإعلامية للتلميع، فالخطة موضوعة بتفاصيلها، والنفس طويل، وبرامج التوك شو لديها أجندة متخمة للإلهاء والقفز على الفرحة، المشكلة هذه المرة أن هموم المصريين باتت أكبر من تلك المحاولات، لكن نظر النظام الآن سيكون على المكسب “الآجل”، انتخابات الرئاسة المقبلة 2018 ستكون قبل مونديال روسيا بقليل، ما المانع للتأجيل بأية ذريعة كي تتزامن هذه مع تلك، ويمر السيسي بهدوء في “زحمة” المونديال الذي جاء بعد شوق؟.. لننتظر.