العدسة – منصور عطية

بينما تقترب إثيوبيا من إتمام مشروعها القومي الأكبر “سد النهضة”، وما له من تأثيرات مستقبلية شديدة الخطورة على أمن مصر المائي وحصتها التاريخية في مياه النيل، ترى القاهرة أنه لا يشكل أزمة بين البلدين.

وبين هذا وذاك، يتزايد الحديث تارة ويخفت أخرى عن النفوذ الإسرائيلي في دول حوض النيل وعلاقة الاحتلال المباشرة بأزمة سد النهضة ودعم جهود أديس أبابا، ضد القاهرة التي يرى فيها حليفا إستراتيجيا في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي.

السودان الجار المصري الأقرب في القارة السمراء، لم يسر على النغمة ذاتها فيما يخص إسرائيل، بل أكد رئيس أركان جيشه السابق مؤخرا أن هذا النفوذ الإسرائيلي المتغلغل من أخطر ما تواجهه الخرطوم ويهدد مباشرة أمنها القومي.

فلماذا تبقى مصر الوحيدة التي لا ترى في تواجد إسرائيل بحوض النيل خطرا عليها؟ وما حقيقة أطماع الاحتلال بمياه النيل وارتباطه بفكرة تأسيس وطن قومي لليهود؟.

من النيل إلى الفرات

للوهلة الأولى عند الحديث عن النفوذ الإسرائيلي في حوض النيل، يتبادر إلى الذهن المقولة التاريخية التي تشكل عمق الوجدان اليهودي والمفهوم التاريخي لحدود دولتهم المزعومة من النيل إلى الفرات.

تلك الإستراتيجية، بدأت مع المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في مدينة “بازل” السويسرية عام 1897، بهدف الإعداد لتأسيس وطن قومي لليهود، استُقرَّ على أن يكون في فلسطين، وهو ما تم لهم في غضون خمسة عقود، بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948.

وبجانب هذا الهدف -الخاص بإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات كما يزعمون -تبرز مجموعة أخرى من الغايات والأهداف في الإستراتيجية الإسرائيلية، قائمة على إدراك صناع القرار في إسرائيل بعض الحقائق المرتبطة بحوض النيل.

ويرى مؤلف كتاب “إستراتيجية التغلغل الإسرائيلي في حوض النيل” المنشور 2013، أن اهتمام الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية بدول حوض النيل ليس وليد اليوم أو العقود الماضية من الصراع العربي الإسرائيلي، من أجل تحقيق هدف محدد قريب المدى، ينقضي بانقضاء الفترة الزمنية الراهنة، إنما هو نتاج اهتمام دائم باعتباره أحد متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي بأبعادها الثلاثة: الأمنية والسياسية والاقتصادية.

ومنذ الاعتراف بإسرائيل كدولة عام 1948، سعى آباء الدولة العبرية إلى إقامة علاقات مع عدد من الدول الإفريقية والآسيوية من أجل كسب أكبر عدد من الدول المحيطة بها، وفي نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي -عقب العدوان الثلاثي على مصر- اتجهت إسرائيل إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع عدد من دول حوض النيل، أهمها: كينيا، والكونغو الديمقراطية (زائير)، وأوغندا، وأثيوبيا، ورواندا.

وركزت إسرائيل على جوانب شديدة الأهمية بالنسبة للدول الإفريقية، ومن بينها التعاون في الجانب الأمني الإستراتيجي، وكذلك في النواحي الإدارية والاقتصادية، ولاسيما النقل والمواصلات والدعم الفني في مجال بناء الدولة ومؤسساتها.

وفي نهاية عقد السبعينيات، توطدت علاقات إسرائيل الإفريقية، بما في ذلك دول حوض النيل، بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل، وبدأت إسرائيل باستغلال الصراعات القائمة في منطقة حوض النيل بين دوله المختلفة، من أجل التسلل إلى داخل تلك الدول عبر إفهام القادة الأفارقة بدول الحوض أن إسرائيل قادرة على حمايتهم وتوفير الأمن لهم، ومن ثم الإبقاء عليهم في الحكم.

ويقول الكاتب إن “أخطر إستراتيجية اتبعتها إسرائيل تجاه دول حوض النيل، هو قيامها بتنفيذ مشاريع مائية وزراعية عديدة في دول الحوض، فأصبحت تسيطر على عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة في تلك الدول، بالإضافة إلى أنها أصبحت بديلا قويا للوجود العربي -وخصوصا مصر- في تلك الدول”.

لماذا تصمت مصر؟

أمام هذا التحدي الذي تفرضه علاقات وثيقة ونفوذ آخذ في الاتساع، ترفع مصر التي تشكل الغاية الكبرى من كل هذه التحركات الإسرائيلية شعار “لا أسمع لا أرى لا أتكلم”.

ولعل الحديث عن عقود من تهميش القاهرة لجيرانها الأفارقة وإهمال توطيد العلاقات معهم أصبح مستهلكا، فيما تشير أصابع الاتهام نحو مسألة التطبيع مع الاحتلال، وما يشكله من ستار يعمي عين مصر راغبة أو مجبرة على ذلك.

ولم يكن الجدل بشأن التطبيع مثارا منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام عام 1979، كما هو في عهد السيسي الذي يستعد خلال أيام معدودات لبدء فترة رئاسية ثانية تعقب انتخابات مشكوك في جدواها.

نقطة البداية الحقيقية في الحديث عن العلاقات بين السيسي وإسرائيل تعود إلى يوليو 2013 عندما أطاح الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وتصدر بطل هذه الإطاحة المشهد، وأصبح لدى كثيرين بطلًا قوميًّا، وصولا إلى أقصى درجات التطبيع السياسي بلقاء معلن هو الأول من نوعه بين السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في سبتمبر الماضي، بعد تسريبات عدة عن لقاءات سرية على استحياء.

هذه النظرة ليست لدى القطاع المؤيد للسيسي داخل مصر فقط، بل في قلب دولة الاحتلال التي رأى أحد قادتها بعد شهرين من عزل مرسي، فيها أن السيسي “زعيم سوف يتذكره التاريخ”.

المدير السياسي والعسكري لوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قال في تصريحات صحفية إن السيسي، وزير الدفاع حينها، “زعيم جديد سوف يتذكره التاريخ”، وأنه “أنقذ مصر من السقوط في الهاوية”.

تقارير إعلامية، نقلت العديد من تعليقات الحاخامات اليهود عن السيسي وقراراته وسياساته، وصلت إلى حد أن رأوه “معجزة”!، وبطبيعة الحال لم تكن تلك التصريحات من جانب واحد، بل بادله الجانب الآخر ذات التصريحات الودية، لعل أحدثها تلك التي شهدتها منصة الأمم المتحدة أواخر يناير الماضي، وأكد فيها حرصه “على أمن المواطن الإسرائيلي”.

وفي مايو 2016، ألقى السيسي خطابًا شهيرًا دعا فيه الفلسطينيين إلى الاستفادة من التجربة المصرية في إقامة السلام مع إسرائيل، الأمر الذي قابله الاحتلال بترحاب شديد وأبرزت عقبه الصحافة العبرية كمًّا هائلًا من الود والعلاقة الحميمية المتبادلة بين السيسي ونتنياهو، منها ما كُشف بشأن المكالمة الهاتفية الأسبوعية بينهما.

التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين وصل لمستويات كبيرة، ففي آخر يناير الماضي، كشفت صحفية “معاريف” العبرية عن أن إسرائيل تقدم دعمًا للجيش المصري في سيناء، يتمثل في الصواريخ الاعتراضية، والمعلومات الأمنية عن المسلحين هناك.

وفي فبراير، قال وزير البنى التحتية والطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس، إن السيسي غمر الأنفاق على حدود بلاده مع قطاع غزة بالمياه “بناءً على طلب من إسرائيل”، وأن “التنسيق الأمني بين إسرائيل ومصر أفضل من أي وقت مضى”.

تقرير حديث لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تحدث عن “تفاصيل العلاقة الاستثنائية” بين مصر والاحتلال، في أعقاب إطاحة الجيش بمرسي.

مدير برنامج السياسة العربية بالمعهد، ديفيد شينكر، قال إن الدينامية بين مصر وإسرائيل تغيرت منذ ذلك التاريخ، حيث ساهم التعاون في سيناء إلى حد كبير في تحسين العلاقات بين البلدين.

الكاتب أكد أن مصر منحت إسرائيل تفويضًا مطلقًا لنشر طائرات بدون طيار فوق سيناء، وأذنت لها باستهداف المقاتلين وفق استنسابها، ولأسباب واضحة.

كما أن التعاون الاستخباراتي بشأن التهديدات القائمة في سيناء قوي أيضًا، حيث وصفه نائب رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، اللواء يائير جولان، في عام 2016 بأنه “غير مسبوق”.

إثيوبيا نموذجا

المفارقة! أن إثيوبيا صاحبة الأزمة التي ستطال أجيالا من المصريين، هي التي تحوز على النصيب الأكبر من الاهتمام الإسرائيلي في إفريقيا عامة ودول حوض النيل خاصة.

تتحكم أديس أبابا فيما يزيد على 80% من منابع مياه النيل، حيث ينبع النيل الأزرق من بحيرات هضبة الحبشة في إثيوبيا، كما تتميز بوضع إستراتيجي خاص من غنى بالموارد الطبيعية، حيث يجري في أراضيها العديد من الأنهار مثل (أباي، تكازا، باراد، أمودو، أواشو، أتشيل) بالإضافة إلى بحيرة (تانا) العظمى التي تشكل مخزونًا مائيًّا هائلًا لنهر النيل.

تعود بداية العلاقات بين إسرئيل وأثيوبيا إلى عام 1952، حيث كان استيراد البقر من إثيوبيا، هو أبرز الأنشطة العلنية، فيما كان ذلك غطاء لاستخدام إثيوبيا كقاعدة استخباراتية للموساد الإسرائيلي، وفي أواخر الخمسينات بدأت إسرائيل منح مساعدات لإثيوبيا، عبر مشروعات في مجالات الزراعة والصحة والتدريب.

قامت إسرائيل بتدريب وتأهيل القوات الخاصة للجيش الإثيوبي، خاصة في صراعها مع قوات الحركة الوطنية الإريترية، وكان لإسرائيل منفذ خاص بميناء مصوع الإريتري على البحر الأحمر، وكانت السفن الإسرائيلية تتوجه للصيد في البحر الأحمر أمام سواحل إثيوبيا.

مع عودة القتال بين إثيوبيا وإريتريا، عادت إثيوبيا للاستعانة بإسرائيل، فتم إبرام صفقة سرية بين إثيوبيا وتل أبيب، عام 1977، يتم بمقتضاها أن تسمح إثيوبيا بتهجير اليهود لديها إلى إسرائيل مقابل صفقة سلاح إسرائيلية ضخمة، ووصل 200 يهودى إثيوبي بالفعل إلى إسرائيل لكن الصفقة لم تكتمل، بعد أن كشف عنها موشيه ديان في وسائل الإعلام عام 1978.

زودت إسرائيل إثيوبيا بصفقة سلاح قيمتها 20 مليون دولار عام 1983، تبين أنها كانت عبارة عن الأسلحة التي صادرتها إسرائيل من منظمة التحرير الفلسطينية، وفي عام 1991 تم تنفيذ عملية “شلومو” لتهجير يهود إثيوبيا إلى إسرائيل، وحصلت أديس أبابا في المقابل على مساعدات قيمتها 35 مليون دولار.

يتناوب المسؤولون الإثيوبيون على زيارة تل أبيب بشكل متتابع، كما عين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مستشارًا خاصًّا للشؤون الإثيوبية منذ عام 2010، حيث يعيش أكثر من 150 ألف إثيوبي على الأراضي المحتلة الآن.