شنّت إسرائيل في 13 يونيو 2025 أعنف ضربات جوية على العمق الإيراني في تاريخ الصراع بينهما. استهدفت هذه الضربات منشآت نووية وعسكرية وقادة رفيعي المستوى داخل إيران، مما خلّف خسائر جسيمة على الجانب الإيراني.
في المقابل، جاء الرد الإيراني أقل حدة مما حملته التصريحات الإيرانية النارية، مقتصرًا على إطلاق صواريخ اعترضت معظمها الدفاعات الإسرائيلية. يسلّط هذا التقرير الضوء على تفاصيل الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وطبيعة الرد الإيراني حتى الآن، ومقارنة ردود طهران الحالية بسوابق مثل عمليتي «الوعد الصادق 1 و2» كما يناقش فرضية أن إيران تتبنّى استراتيجية ضبط النفس لكسب موقف دولي كطرف معتدى عليه بدعم قوى كبرى كالصين وروسيا وباكستان، ويحلّل مدى فاعلية هذا النهج. أخيرًا، نستعرض التناقض بين الخطاب الإيراني الناري والردود الميدانية المتواضعة، مع بحث الأسباب المحتملة لذلك من توازنات داخلية وحسابات إقليمية ودولية.
تفاصيل الضربات الإسرائيلية الأخيرة (13 يونيو 2025)
نفّذت إسرائيل فجر 13 يونيو 2025 عملية جوية واسعة النطاق داخل إيران تعتبر هذه العملية الأكبر على الإطلاق التي تشنها إسرائيل ضد إيران، بهدف منعها من امتلاك سلاح نووي، واسقاط نظامها وقد شملت الضربات أهدافًا حساسة داخل العمق الإيراني، أبرزها:
منشآت نووية وصاروخية: قصفت مواقع البرنامج النووي (مثل منشأة نطنز في أصفهان) ومصانع صواريخ باليستية ، بالاضافة إلى اغتيال قيادات عسكرية عليا حيث أسفرت الضربات عن مقتل نخبة من كبار القادة العسكريين في إيران، بينهم اللواء حسين سلامي (القائد العام للحرس الثوري)، واللواء محمد باقري (رئيس أركان القوات المسلحة)، واللواء غلام علي رشيد (قائد مقر خاتم الأنبياء المركزي) . كما قُتل اللواء علي شمخاني (مستشار المرشد الأعلى وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي)، والعميد أمير علي حاجي زاده (قائد قوة الجوفضائية بالحرس الثوري)، وعدد من كبار ضباط الاستخبارات والدفاع الجوي بالحرس الثوري (منهم العميد خسرو حسني، والعميد داود شيخيان، واللواء غلام رضا محرابي، واللواء مهدي رباني) . وهذه الخسارة الجماعية مثّلت ضربة قاصمة للبنية القيادية للأمن والدفاع الإيراني.
وكذلك اغتيال علماء نوويين: طالت الضربات أيضًا كوادر البرنامج النووي الإيراني. أعلنت وسائل إعلام إيرانية مقتل العالمين النوويين فريدون عباسي دواني (الرئيس الأسبق لمنظمة الطاقة الذرية) ومحمد مهدي طهرانجي (رئيس جامعة آزاد الإسلامية) . كما أكد الجيش الإسرائيلي تصفية عدد إضافي من خبراء العلوم المرتبطين مباشرة بالمشروع النووي (في تخصصات الهندسة الكيماوية وهندسة المواد والفيزياء وهندسة المفاعلات وغيرها)، ما يمثل اختراقًا خطيرًا للسيادة الإيرانية وضربةً نفسية واستراتيجية مدوّية لطهران.
طبيعة الرد الإيراني حتى الآن
أعلنت إيران مساء 13 يونيو “بدء الرد الساحق” على العدوان الإسرائيلي عبر إطلاق مئات الصواريخ الباليستية المتنوعة باتجاه إسرائيل . وقد توعّدت طهران بأن يكون ردّها متناسبًا وموجعًا للجانب الإسرائيلي، إذ صرّح مسؤول إيراني كبير أن الهجمات ضد إسرائيل ستتواصل بوتيرة متصاعدة وأن من حق إيران المشروع الردّ بحزم على هذه الضربات.
وبالفعل، أطلقت إيران عدة موجات من الصواريخ على مدى يومي 13 و14 و15 يونيو، استهدفت بشكل خاص مناطق وسط إسرائيل بما فيها تل أبيب والقدس . كما وردت تقارير عن استخدام مسيّرات هجومية في محاولة لضرب أهداف داخل إسرائيل، تصدّت لها الدفاعات الجوية الإسرائيلية .
ورغم ضخامة وعود “الرد الساحق”، جاءت النتائج الميدانية محدودة قياسًا لحجم الضربة التي تلقتها طهران. فقد فعلت إسرائيل أنظمة دفاعها الجوي المتقدمة (القبة الحديدية ومقلاع داود والسهم والباتريوت)، مما اعترض معظم الصواريخ الإيرانية في الجو . تؤكد المصادر الإسرائيلية أن نسبة اختراق الصواريخ التي وصلت لأهدافها لم تتجاوز 10% تقريبًا . ومع ذلك، سقطت بعض الصواريخ على مناطق إسرائيلية مأهولة: حيث دوت صافرات الإنذار ووقعت انفجارات في تل أبيب ومحيطها، مخلّفة أضرارًا مادية في بضعة مبانٍ شاهقة وانقطاعًا للكهرباء في مواقع محدودة . أصيب عشرات المدنيين الإسرائيليين بجروح طفيفة أو بحالات هلع؛ وقدرت إذاعة الجيش الإسرائيلي عدد الجرحى بحوالي 14 مصابًا في موجة أولى ، ثم ارتفع العدد لاحقًا مع استمرار الهجمات. بحلول 14 يونيو، أفادت مصادر إسرائيلية بمقتل 3 أشخاص وإصابة نحو 100 آخرين إجمالًا جراء الصواريخ الإيرانية (منهم قتيلان وأكثر من 20 جريحًا في ضربة على منطقة ريشون لتسيون جنوبي تل أبيب) . هذه الحصيلة تبقى متواضعة جدًا مقارنة بخسائر الجانب الإيراني الفادحة.
من جانبها، ضخّمت طهران دعائيا حجم نجاح ردها. فقد زعمت وكالة إرنا الرسمية أن “الصواريخ الإيرانية أصابت عشرات الأهداف بدقة داخل إسرائيل” بما فيها مواقع حيوية ، وادّعت مصادر الحرس الثوري أن نسبة عالية من المقذوفات بلغت أهدافها. بيد أن الإعلام الغربي والإسرائيلي وصف الهجمات الإيرانية بأنها فشلت في إحداث أثر استراتيجي يُذكر.
وأكد الجيش الإسرائيلي أن قدراته ووظائف قواعده العسكرية لم تتعطل على الإطلاق نتيجة القصف الإيراني . كذلك لم تسجل أي إصابات بين القيادات الإسرائيلية أو ضرب مراكز حيوية مثل مقرات الجيش؛ ما يعني أن الرد الإيراني جاء أدنى بكثير من مستوى الضربة الإسرائيلية التي استهدفت صميم البنية النووية والعسكرية لإيران .
هذا التفاوت الواضح بين خطاب طهران الناري عن “الرد الساحق” وبين واقع الأضرار المحدودة في إسرائيل أثار تساؤلات حول مصداقية الردع الإيراني وقدرة طهران (أو رغبتها) في تنفيذ وعيدها عندما يكون الخصم هو إسرائيل مباشرةً.
جدير بالذكر أن أحد أسباب محدودية الفعالية العسكرية للرد الإيراني قد يعود إلى إجراءات استباقية إسرائيلية خلال الضربة الأولى. إذ تفيد تحليلات استخباراتية أن إسرائيل تعمدت قصف منصّات إطلاق وصوامع صواريخ إيرانية ضمن الموجة الافتتاحية يوم 12 يونيو، بهدف شل قدرة إيران على الرد الواسع . وبحسب مصادر من الحرس الثوري نقلت عنها نيويورك تايمز، كانت إيران تخطط لإطلاق نحو 1000 صاروخ باليستي في الرد، إلا أن تدمير منصات الإطلاق أجبرها على الاكتفاء بحوالي 200 صاروخ فقط موزعة على ست موجات . هذا التكتيك الإسرائيلي بتقليص القوة الصاروخية الإيرانية أعاق طهران عن تنفيذ رد أعنف كانت ربما تنويه، مما يفسّر جزئيًا فجوة الأداء بين الطرفين.
عمليات “الوعد الصادق” كمرجع لردود إيران السابقة
لفهم سياق الرد الإيراني المحدود، يمكن الرجوع إلى تجربتين حديثتين مماثلتين: عمليتا «الوعد الصادق 1 و2» اللتان نفذهما الحرس الثوري الإيراني عام 2024 ردًا على اعتداءات إسرائيلية. تكشف هاتان العمليتان نمطًا من الردود الإيرانية المحسوبة التي تبدو قوية في خطابها لكنها محدودة الأثر ميدانيًا.
عملية الوعد الصادق 1 (أبريل/نيسان 2024): جاءت هذه العملية ردًا على قصف إسرائيلي استهدف مقرًا تابعًا لإيران (القنصلية الإيرانية في دمشق) أثناء حرب غزة 2023. في ليلة 13 أبريل 2024 أطلق الحرس الثوري، بالتنسيق مع حلفائه (حزب الله اللبناني وأنصار الله الحوثيين)، أكثر من 200 صاروخ باليستي وطائرة مسيّرة من الأراضي الإيرانية باتجاه أهداف في إسرائيل والجولان المحتل . ورغم الحجم الكبير لهذا القصف (أول هجوم إيراني مباشر من أراضيها على إسرائيل)، حرصت طهران على تفادي وقوع خسائر بشرية كبيرة لدى العدو. بالفعل لم تُسجَّل أي وفيات في إسرائيل جراء الوعد الصادق 1؛ إذ أفادت المصادر العبرية أن الصواريخ استهدفت غالبًا مناطق مفتوحة أو عسكرية ليلاً لتجنب المدنيين
كانت الحصيلة إصابة طفلة بدوية بشظايا بشكل غير قاتل، وإصابة بضعة أشخاص آخرين بجروح طفيفة، إضافة إلى عشرات حالات الهلع النفسي بين السكان . قدّرت CNN أن الهجوم خُطِّط عمداً ليحقق “عرضًا ناريًا بأقل خسائر” . وعلى الرغم من إعلان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي حينها أن العملية نجحت في “تلقين المعتدي درسًا قاسيًا” ، رأت دوائر غربية أنها رد استعراضي محدود، يجنّب إسرائيل ذرائع تصعيد أوسع.
عملية الوعد الصادق 2 (أكتوبر/تشرين الأول 2024): نفّذت إيران موجة ثانية من القصف الصاروخي المباشر ليلة 1 أكتوبر 2024، عقب سلسلة أحداث تصعيدية خطيرة. إذ كانت إسرائيل قد اغتالت القيادي الفلسطيني إسماعيل هنية خلال زيارته لطهران، ثم صعّدت باستهداف قيادة حزب الله في بيروت مما أدى إلى مقتل الأمين العام حسن نصر الله وعدد من كبار قادة الحزب، وكذلك مقتل اللواء عباس نيلفروشان (نائب عمليات الحرس الثوري) .
تعهّدت طهران بالانتقام لهذه الضربات المؤلمة، وبعد أسابيع من التحضير نفذت الحرس الثوري عملية الوعد الصادق 2. أُطلق نحو 200 صاروخ باليستي من عدة قواعد داخل إيران (في طهران وكاشان وتبريز وكرمانشاه وغيرها) مستهدفًا مواقع عسكرية إسرائيلية محددة، أبرزها قاعدة نيفاطيم الجوية وقاعدة تل نوف وسط فلسطين المحتلة، وكذلك مقر للموساد . ادعى الحرس الثوري أن 90% من الصواريخ وصلت لأراضي إسرائيل ، بينما صرّحت إسرائيل أنها اعترضت معظمها . الواقع أن الأضرار المباشرة كانت محدودة: لحقت أضرار بمدرج قاعدة نيفاطيم ومخازن في تل نوف ، وتضررت مبانٍ مدنية بشكل عرضي (مثل مدرسة في جديرا ومطعم في تل أبيب، إضافة لأكثر من 100 منزل في هود هشارون) . أما الخسائر البشرية فجاءت شبه معدومة لدى الإسرائيليين – لم يُقتل أي إسرائيلي مباشرة بالقصف. سقطت ضحية واحدة فقط هي عامل فلسطيني قُتل جراء حطام صاروخ قرب أريحا بالضفة الغربية . أكدت طهران أنها تعمدت استهداف منشآت عسكرية فقط وتجنب المدنيين ، الأمر الذي أضعف تأثير الضربة عسكريًا لكنه جنّبها ردًا دوليًا حادًا. الإعلام المقرّب من الحرس وصف العملية بالناجحة وأشاد بـ“تعاون محور المقاومة” ، بينما اعتبرتها جهات غربية فشلًا ذريعًا لإيران في إيقاع أذى ملموس بإسرائيل .
الحصيلة: على الرغم من أن الوعد الصادق 2 جاءت ردًا على اغتيالات كبيرة بعضها على أرضها في اعتداء واضح على سيادتها، فإن إيران اكتفت برد عقابي محسوب لم يقتل إسرائيليين ولم يغير ميزان القوى، الأمر الذي عكس حذر طهران الشديد من توسيع دائرة الصراع.
تشير هذه السوابق إلى نمط ثابت: إيران ترد على اعتداءات إسرائيلية كبيرة بردود عسكرية مباشرة من أراضيها تحمل شعارات الثأر والقوة (بل وبتسميات ذات دلالة كـ“الوعد الصادق” و“العقاب الشديد”)، لكنها في الواقع تضبط سقف الرد بحيث لا يؤدي إلى حرب مفتوحة شاملة. تفضّل طهران توجيه رسائل ردع رمزية وإبراز قدراتها الصاروخية، دون تجاوز “الخطوط الحمراء” غير المعلنة التي قد تستجلب رداً إسرائيلياً/أمريكياً مدمراً أو تفجّر حرباً إقليمية لا تريدها إيران في توقيت غير مواتٍ لها.
في الجزء الثاني من هذا التقرير نتناول فرضية استراتيجية ضبط النفس الإيرانية (لعبة الاستثمار الدولي) وفاعلية النهج الإيراني: دعم دولي أم تآكل لمصداقية الردع؟
يتبع
اضف تعليقا