نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريرًا عن ارتفاع حالة الانتحار بلبنان، في ظل أزمة اقتصادية تُصنّف أنها من بين أشدّ عشر أزمات، وربما من بين الثلاث الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ومنذ صيف 2019 يشهد لبنان انهيارًا اقتصاديًا متسارعًا هو الأسوأ في تاريخ البلاد، فاقمه انفجار مرفأ بيروت المروع في الرابع من أغسطس/ آب وإجراءات مواجهة فيروس كورونا، وسط صراع على الحصص والنفوذ بين القوى السياسية يحول دون تشكيل حكومة وإنقاذ الموقف.
وقالت الصحيفة: كل أسبوع تذهب رنيم، الفتاة البالغة من العمر سبع سنوات، برفقة ابن عمها أحمد، لزيارة قبر والدها علي الفليطي، في مقبرة عرسال، وهي بلدة لبنانية على الحدود مع سوريا، حيث أقدم على شنق نفسه في ديسمبر / كانون الأول 2019 خلف منزل الأسرة.
وأوضحت أن والدها كان يعمل في نشر أحجار الزينة، وأقدم على الانتحار وعمره 42 عامًا، رغم أن الانتحار محرم شرعًا بين المسلمين والمسيحيين.
وأشارت إلى أن هذه القضية التي وقعت أحداثها في بداية الانهيار المالي لعام 2019، تسببت في إحداث موجات من الصدمة بجميع أنحاء البلاد.
فعلي الفليطي أو ناجي، كما كان يدون في بطاقة الهوية، تراكمت الديون عليه حتى وصلت لنحو 700 ألف ليرة، أي 350 دولاراً، ومعظمها لدكاكين قرب بيته، كان يشتري منها احتياجاته.
كان يُنظر إلى مأساة هذا الرجل على أنها تجسيد ليأس اللبنانيين، ورمز إلى رفض الإذلال من جانب هذا الأب الذي لم يعد قادرًا على إعالة أسرته.
وبحسب الصحيفة الفرنسية، فإن الأشهر المظلمة استمرت في لبنان منذ انتحار الفليطي: هاوية مالية واقتصادية، وباء كوفيد -19، وانفجار في مرفأ بيروت.
وتابعت “انهيار المجتمع مستمر، دون أي خطة لإنهاء الأزمة من قبل الطبقة السياسية – التي كان جزء منها مدعومًا من قبل الغرب ودول الخليج – والعملة المحلية أخذة في الانخفاض، مقترنة بالتضخم المفرط، كما يزداد النقص في السلع الأساسية سوءًا”.
حرب وديون وعدم استقرار
وبالعودة إلى قضية علي الفليطي لفتت “لوموند” إلى أن منزل عائلته موجود في نهاية شارع منحدر، على أطراف الجبل المطل على عرسال، وهي بلدة يقطنها أكثر من 90 ألف نسمة (غالبيتهم من اللاجئين السوريين).
وأمام صورة لزوجها تتذكر أرملة علي الأيام الخوالي، مثل اللقاء ثم الزواج في عام 2006، لكنها أيام لم تدم طويلاً، فبعد فترة وجيزة، علمت تهاني أنها مصابة بالسرطان لتعيش بعدها سنوات من العلاج المكلف والمتابعة.
ولادة رنيم في عام 2012 كانت من الفترات السعيدة القليلة في حياتهما، لكن الولادة كانت محفوفة بالمخاطر بالنسبة لتهاني، فلم تتمكن من الإنجاب مجددًا، لتنصح أسرة علي هذا الأب الصغير بالزواج من ثانية ليرزق بمحمد.
يعترف أحد أعمامه اليوم، الذي أيد الزيجة الثانية: إنها أحد عاداتنا، لكنها في الواقع كانت تعني تضاعف المسؤولية التي تحملها علي”.
تفاقمت مشاكل الأسرة المالية منذ 2014، وعُزلت منطقة عرسال بعد ذلك، وحاصرتها حواجز الجيش اللبناني، إثر اشتباكات عنيفة ووجود مقاتلين سوريين متطرفين في المدينة، كما أن ضجيج الحرب في سوريا القريب جدًا أثر على إمكانية الوصول إلى البساتين والمحاجر وباتت مهنة الأب آخذة في الانخفاض.
أما زوجته الثانية فكانت تعيش في منزل آخر، لكنها تأتي لقضاء الشتاء القارس في هذه المنطقة مع علي وتهاني “لمشاركتهم في المدفأة التي تعمل بالزيت”.
في خريف عام 2019، ثار جزء من لبنان ضد الطبقة السياسية، التي كان قادتها يتشبثون بالسلطة في الغالب منذ سنوات الحرب (1975-1990).
بالنسبة للعديد من اللبنانيين، الانتفاضة كانت لحظة أمل واتحاد، لكن بالنسبة لعلي، هذا يعني المزيد من عدم الاستقرار: خمسة وأربعون يومًا بلا عمل، في بلد في حالة اضطراب، تراكمت الديون”.
وتتذكر أرملته: “لم يعد بإمكان علي فعل شيء كان غاضبا، يتكلم قليلا، وأنا كنت خائفة، حاول أن يطمئنني، قائلا لا تقلقي، لن نجوع، وفي صباح أحد الأيام من شهر ديسمبر/ كانون أول، وجده والده مشنوقا في الخارج”.
حالة انتحار كل يومين ونصف
وتقول اليومية الفرنسية في هذا البلد المنهك، يظل الانتحار من المحرمات الاجتماعية، لكن بسبب دخول البلاد من أزمة إلى أخرى، أصبح في ازدياد، وعندما يتم الإعلان عن هذه القضايا، غالبًا ما يكون من قبل الشرطة التي تشير إلى جنسية المنتحر بالأحرف الأولى من اسمه.
ونوهت إلى أنه في بعض الأحيان تكون المشاهد عنيفة للغاية، فعلى سبيل المثال، ذات يوم في صيف 2020، أطلق رجل يبلغ من العمر 61 عامًا، النار على رأسه وسط شارع في منطقة تجارية ببيروت، وفي أبريل/ نيسان 2020، توفي لاجئ سوري، متأثراً بجراحه بعد أن أضرم النار في نفسه وسط الشارع في سهل البقاع.
واستغلت وسائل الإعلام المحلية، منذ عام 2019، هذه الوفيات التي تم التغاضي عنها منذ فترة طويلة، فغالبا ما يشار إليها على أنها “حالات انتحار اقتصادي”، وأعراض لدولة فاشلة، لكن سامي ريشا، رئيس الجمعية اللبنانية للطب النفسي، حذرًا بشأن هذه المسميات إذ يقول “لا يوجد سبب واحد يحدد الانتحار”.
ووفقًا لتقديرات مبنية على أرقام جمعتها الشرطة بين عامي 2008 و2018، فإن شخصا ينتحر كل يومين ونصف اليوم في لبنان.
وينوه رئيس الجمعية اللبنانية للطب النفسي “في الواقع، لا توجد بيانات موثوقة، خاصة في ظل نقص التشريح النفسي، بالإضافة إلى ذلك، يتم السكوت عن حالات الانتحار لأن الأسرة تخشى أن يرفض الكاهن أو الشيخ أداء الطقوس الدينية على المتوفى. لذلك لا نستطيع معرفة تطور عدد حالات الانتحار في لبنان، فالحديث عن زيادة مجرد استنباط”.
من جهته أشار رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى “أوتيل ديو دي فرانس” ببيروت إلى “زيادة حالات الاكتئاب، التي تؤثر على جميع مناحي الحياة. لكن بالطبع، ليس كل الاكتئاب يؤدي إلى الانتحار”.
وفي نهاية التقرير تقول الصحيفة إن تهاني أرملة علي الفليطي التي تعاني من أمراض مزمنة متعددة لا تزال تشعر بالذنب قائلة “بسبب حالتي الصحية، أجبرت علي على أن يعيش حياة صعبة، كان دائما يدعمني”.
وبين ليالي الأرق والحزن، وجهت كل طاقتها إلى الطفلة رنيم، التي “تريد أن تكون طبيبة حتى تشفيها”، حيث تولى أحد المتبرعين مسؤولية تعليم هذه الفتاة.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا