ترجمة العدسة عن مقال الكاتبة والمترجمة اللبنانية لينا منذر في صحيفة الغارديان البريطانية

واجهت أهوالاً كثيرة في حياتي، إلا أنني كنت أستطيع أن أتمالك نفسي بعدها مباشرة وأنسى ما حدث ولو لثواني معدودة، لكن هذه المرة الأمر مختلف، ما تعرضنا له في بيروت لا يمكن الغفلة عنه أبداً، يطاردنا حتى أثناء النوم. ليست حياتي فقط هي التي تحطمت، إنه العالم الذي كان يحافظ عليها، صحبة وأحباء، ومناظر المدينة الجميلة!

لقد جافاني النوم منذ تلك الحادثة، وأعتقد أنني لا أنام ليس لأنني أخاف من النوم بصورة عامة، ولكن لأنني كنت على سريري عندما وقع الانفجار، الذي شل حركتي، أتذكر أن الأمر استغرق مني دهراً كي أحاول ترك السرير.

نحن جميعًا في بيروت – وأولئك الذين غادروا بيروت رغم حبهم الشديد لها- غارقون في الإرهاق والحزن والغضب القاتل الذي لا يهدأ أبداً، وكل ما يشغل بالنا: ماذا حدث وكيف ومن المسؤول؟

ماذا حدث؟

دوى انفجار هائل في بيروت وشوارعها ومنازلها الساعة 6.08 مساء الثلاثاء، لقد كان ضخمًا جدًا لدرجة أنه سُمع في قبرص، كان ضخماً جدًا لدرجة أنه حطم الزجاج والأبواب التي تبعد عنه مسافة كيلومترات، واحترقت الأشجار، ودُمرت الأسطح الحمراء للمباني التي تعود إلى قرون، لقد كان ضخماً حتى أن المياه هربت من مجاريها إلى داخل المنازل.

تسببت هذه الكارثة في إصابة 5000 شخصاً، و154 قتيلا – حتى الآن، كما لا يزال هناك الكثير في عداد المفقودين تحت الأنقاض.

التخمين الأكبر الآن أن هناك 2750 طنًا من نترات الأمونيوم كانت مخزنة في حظيرة 12 في مرفأ بيروت، ربما بجوار مستودع مليء بالألعاب النارية، لا نعرف حقًا كيف اشتعلت نترات الأمونيوم تلك، التي تمت مصادرتها من سفينة وتخزينها في ظروف غير آمنة في وسط مدينتنا لمدة ست سنوات؛ لأن المسؤولين يرفضون بصورة مريبة إجراء تحقيق دولي.

لنكن واضحين عن هوية المسؤولين، إنهم: كل أمراء الحرب المدمرة وأبناؤهم وأبناء أخواتهم وأصهارهم الذين يشغلون أعلى مناصب السلطة، كل مسؤول موالي لهم اختاروه شخصيًا وعينوه في مناصب مؤثرة في كل قطاع في الدولة، سواء عام وخاص، وكل وزير وبيروقراطي مهتم بمصالحه الشخصية، وجبان جداً في مواجهة ما حدث بالتحدث عنه على الأقل، هذه المافيا هي ما يشار إليها على نطاق واسع في لبنان بـ “الطبقة السياسية”، أو “النخبة الحاكمة”.

غضبي مما حدث مساو تماماً لحزني على الدمار الذي لحق بالمدينة الحبيبة حيث ولدت وترعرعت، على القتلى والمفقودين والمصابين، على الأنقاض التي تنتشر الآن في شوارعها – الزجاج والحجر، على الملابس والكتب والصور واللوحات، كل تذكارات الحياة – هو غضب أحمل مسؤوليته لأولئك الرجال المتسببين فيما حدث، ما حدث لم يكن “حادثًا مؤسفًا” – بل إهمالًا مميتًا، لقد عرفنا منذ فترة طويلة أن سلامتنا ورفاهيتنا وحياتنا لا تعني شيئًا لهؤلاء الرجال.

إنهم نفس الأشخاص الذين حاولنا إقصائهم عندما نزلنا إلى الشوارع في أكتوبر/تشرين الأول 2019، في موجة من الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة، مطالبين برحيلهم جميعاً، هاتفين “كلن يعني كلن”، ولم نتراجع حتى عندما تعرضنا للضرب من قبل مختلف الموالين للحزب بسبب ذلك الهاتف.

فُجرت تلك الاحتجاجات بسبب فرض ضريبة مقترحة على تطبيق WhatsApp ، إلا أنها في الواقع كانت نتيجة سنوات من الإحباط المتراكم بسبب سوء إدارة القطاع العام وبسبب الفساد المستشري لدرجة أنه أغرق البلاد في ديون بقيمة 86 مليار دولار، وبعد مرور ثلاثين عامًا على انتهاء الحرب الأهلية، ما زلنا نعاني من انقطاع الكهرباء بصفة مستمرة، كما نفتقر إلى المياه المناسبة أو الصرف الصحي المناسب أو جمع القمامة بشكل موثوق، لم تهتم تلك الإدارة سوى ببناء عقارات فاخرة لا يمكن التمتع بها إلا من أبناء طبقة الأغنياء فاحشي الثراء.

كنا غاضبين حينها، لكنه كان غضبًا ممزوجاً ببهجة وتفاؤل، رقصنا وهتفنا وتعجبنا من أن الكثير منا قد اجتمع دون النظر إلى أسس طائفية وطبقية، تمكنا من الإطاحة بالحكومة وابتهجنا بانتصارنا، لكنها فرحة لم تدم طويلاً: فالحكومة الجديدة المعينة لم تختلف كثيراً عن سابقتها، فقط مجرد اختلاف أسماء، وليس الأحزاب أو السياسات.

منذ ذلك الحين، انهار اقتصادنا بالكامل، انخفضت قيمة عملتنا بأكثر من 80٪، وقامت البنوك بتقييد عمليات السحب لدينا بينما قام المصرفيون بتهريب حوالي 6 مليارات دولار إلى خارج البلاد، لتصبح الرواتب ومدخرات الحياة بلا قيمة بين عشية وضحاها، وبالطبع لن توافق الحكومة على تدابير الشفافية اللازمة لإلغاء تأمين قرض من صندوق النقد الدولي.

ثم توالت المصائب بعد تفشي جائحة كورونا، وخلال الحظر المفروض بسبب ذلك الوباء لم يتم توزيع أي مساعدات على السكان أصحاب الحاجات الشديدة، وأغلقت البنوك أبوابها في وجهنا لأسابيع متتالية، كان هناك تسريح جماعي للعمال، وتزايدت حالات الانتحار بين المواطنين، ولجأ الشعب إلى نظام المقايضة من جديد للحصول على حليب أو حفاضات للأطفال.

ثم وقع الانفجار!.

الانفجار الناجم عن الإهمال الفظيع للغاية، وعدم الكفاءة، ليضعنا أمام حقيقة واحدة أن هؤلاء الرجال ]المسؤولين[ لا يهتمون بحياتنا التي ينظرون إليها بكل احتقار وتجاهل، كل شخصية في السلطة، بدءً من الرئيس، مسؤولة عما حدث لنا، على الرغم من محاولاتهم المستميتة في دفع اللوم عنهم وانكارهم مسؤوليتهم، مع استمرارهم في إهمالهم، حيث لم تبذل الدولة أي جهد في البحث عن الجثث، كلها جهود قام بها مواطنون عاديون.

الناس ينظمون الآن للاحتجاجات الجماهيرية، الغضب الذي يسيطر على اللبنانيين الآن لم أره من قبل، أنا متأكدة من ذلك لأنه يغلي في جسدي أيضًا، هذه المرة تختلف عن المرة الأولى التي نزلنا فيها إلى الشوارع، لا يوجد حديث عن إصلاح على مستوى القاعدة الشعبية أو آليات دستورية يمكن استخدامها لإزاحة النخبة الحاكمة من السلطة، الوسم الأكثر انتشارًا المصاحب لدعوات الاحتجاج هو “تحضير المشانق”.

لقد ارتكبت الدولة بالفعل الخطأ الفادح المتمثل في إهمال المواد القابلة للاشتعال، وتركها في ظروف غير آمنة، ليصبحوا على موعد الآن مع انفجار من نوع آخر في وجوههم، ولن يمكنهم حينها التذرع بالجهل.

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا

اقرأ ايضًا: “هيروشيما بيروت” .. صدمة ويأس وروايات متضاربة وأصابع اتهام تطال الجميع