تدرك إسرائيل أن عدوانها المستمر على غزة وما يرتكبه جيشها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحاجة إلى غطاء إعلامي مكثف لتبريرها أمام الرأي العام العالمي. لهذا السبب، لا تكتفي آلة الدعاية الإسرائيلية بالتضليل الإعلامي عبر قنواتها وصحفها، بل تلجأ أيضًا إلى أساليب أكثر انحطاطًا، منها استغلال الأسرى الفلسطينيين في حملات دعائية تبرر عدوانها وتزيف الواقع. تُستخدم أساليب التلاعب بالمقاطع المصورة، الاقتطاع الممنهج للإجابات، الترجمة المضللة، وعرض المعتقلين في أوضاع مهينة كأدوات لتقديمهم وكأنهم يعترفون برواية الاحتلال، بينما هم في الحقيقة مجبرون على الظهور أمام الكاميرات تحت الضغط والتعذيب.
في 19 فبراير/شباط 2025، نشرت القناة 13 الإسرائيلية مقابلة مع الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان في غزة، والذي كانت قوات الاحتلال قد اعتقلته في ديسمبر/كانون الأول 2024 خلال اجتياح المستشفى. هذه المقابلة، التي بدت في ظاهرها لقاءً صحفيًا، لم تكن سوى استجواب إعلامي ملفق، جُهّزت أسئلته بعناية لاستدراج إجابات تخدم الرواية الإسرائيلية، وتم إخراجها بأساليب تضليلية معتادة لتقديمها على أنها اعترافات حقيقية.
منذ اللحظات الأولى، كان واضحًا أن المقابلة ليست سوى جزء من الحملة الإسرائيلية لتبرير استهداف المستشفيات والطواقم الطبية في غزة. ظهر الدكتور حسام مكبل اليدين والقدمين، محاطًا بجنود الاحتلال، بجسد هزيل وملامح شاحبة تعكس أسابيع من سوء المعاملة. لم يكن في موقف يسمح له بالتعبير بحرية، لكنه أُجبر على الوقوف أمام الكاميرات بينما كان المذيع الإسرائيلي يوجه له أسئلة استفزازية، محاولًا انتزاع أي تصريح يمكن استخدامه للدعاية.
ورغم أن الدكتور حسام لم يكن يتحدث العبرية أو الإنجليزية، وكان ينتظر ترجمة المترجم لكل سؤال قبل الرد، استغل الإعلام الإسرائيلي حتى لحظات انتظاره، حيث عمد إلى تصوير إيماءات رأسه أثناء الاستماع إلى الأسئلة وزعم أنها دليل على موافقته على مضمونها. لكن الأخطر كان في التلاعب بالمحتوى عبر المونتاج، حيث تم اقتطاع المشاهد وربط إجابات بأسئلة لا تمت بصلة لبعضها البعض. فعندما سُئل عن رأيه في أحداث السابع من أكتوبر، ظهر في جزء من إجابته وهو يقول إن “الشاباك تعامل معه بلطف”، فما علاقة هذا بذاك؟ هذه ليست زلة لسان، بل خدعة مدروسة تهدف إلى زرع فكرة أن الدكتور حسام يدين ما حدث، رغم أن كلامه لم يكن مرتبطًا بالسؤال المطروح. ولم يتوقف التزييف عند هذا الحد، فقد سُئل أيضًا عن مزاعم احتجاز حماس للرهائن الإسرائيليين داخل المستشفى، وبسبب التلاعب بالمونتاج، تم تقديم بعض كلماته وإيماءات رأسه على أنها تأكيد لرواية الاحتلال، بينما لم ينطق بأي تصريح مباشر بهذا الشأن. هذا النوع من التحريف ليس جديدًا على الدعاية الإسرائيلية، لكنه في هذه الحالة كان أكثر فجاجة، حيث لم يقتصر على الترجمة المضللة فحسب، بل امتد ليشمل تقطيع اللقطات وتنسيقها بشكل يخدم الرواية الإسرائيلية المسبقة.
التوقيت الذي اختير لبث المقابلة لم يكن مصادفة، بل جاء قبل أيام قليلة من الموعد الذي تحدثت فيه تقارير عن احتمال الإفراج عنه يوم السبت المقبل ضمن صفقة تباد الأسرى، فإسرائيل أرادت استباق أي تحركات قانونية أو ضغط دولي إضافي للمطالبة بإطلاق سراحه، فجاءت هذه المقابلة كجزء من استراتيجيتها لخلق غطاء إعلامي يبرر استمرار اعتقاله أو حتى التمهيد لتمديد احتجازه.
الدكتور حسام أبو صفية ليس مجرد طبيب عادي، بل شخصية إنسانية بارزة كرست حياتها لإنقاذ المرضى وسط الدمار والقصف الإسرائيلي المستمر. فقد ابنه في غارة إسرائيلية قبل أسابيع قليلة من اعتقاله، لكنه رفض مغادرة المستشفى واستمر في أداء واجبه، رغم الخطر الذي كان يحيط به. استهدافه لم يكن استثناءً، بل جزءًا من سياسة الاحتلال في ملاحقة الأطباء والمسعفين، في محاولة لتجريد غزة من أي قدرة على الصمود. منذ لحظة اعتقاله، خضع لتعذيب شديد كما أكد أسرى محررون كانوا معه، حيث تعرض للضرب المبرح، الحرمان من النوم، وأجبر على البقاء في أوضاع مهينة داخل الزنازين.
لم يُسمح كذلك لعائلته بلقائه إلا بعد أسابيع من الإخفاء القسري، وهي سياسة معتادة لدى الاحتلال لطمس أي أدلة على التعذيب، وتهدف كذلك لكسر معنويات الأسرى وذويهم. ورغم كونه طبيبًا مدنيًا، قررت إسرائيل تقديمه لمحاكمة عسكرية بتهمة أنه “مقاتل غير شرعي”، في محاولة لإضفاء شرعية على اعتقاله التعسفي.
الفيديو لم يكن مقابلة حقيقية، بل كان تحقيقًا إعلاميًا قسريًا تحت ظروف الاعتقال والتعذيب الجسد المنهك، القيود، النظرات المرهقة، وجود عشرات الجنود المدججين بالسلاح، كانت كلها دلائل على الوحشية التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون. لم يكن بحاجة إلى أن ينطق بكلمة واحدة ليُظهر حقيقة ما يجري داخل السجون الإسرائيلية، فملامحه وحدها كانت كفيلة بفضح الاحتلال وأساليبه القمعية.
اضف تعليقا