وسط مُتُنٍ عمياءٍ، على متنِها الطلابُ، وسٙفْنُها المؤسساتُ، تقتادها رياحٌ العبثِ إلىٙ رحلةٍ تتجددُ كلٙ صباحٍ علىٙ ذروتها سرابٌ بقيعةٌ، كيف ينجو المساكين؟

قال لي صديقي: “زيد على ألا يكون التعليم تعليما .. فالطلاب ليست طلابا”؛ فما هو دور طالب الجامعة في نبذ تلك المفارقات؟ وهل يتحقق الدور بتمام الشرط الآخر؟ بل ما هو الشرط الآخر؟
هذا ما سنعرفه في دوري -كطالب الجامعة- الذي ينبغي.

عالم أو متعلم لا خير فيما وراء ذلك كما جاء في الخبر، إن هذا التقسيم الثنائي لأفراد الأمة الإسلامية جعل التعليم الإسلامي لا نهاية له إلا بمفارقة الإنسان للحياة، وكان العلماء من المسلمين الأوائل خير من يطبق هذا المبدأ “اعمل لآخرتك كأنك تعيش أبدا”، كانوا دائبين في تحمل العلم وتبليغه ومذاكرته حتى وهم في المرض أو سياقه، ومنهم من كان في ساعات احتضاره يحفظ أبياتا من شواهد العلم وضوابطه، فحسب (أبي زرعة) وقت احتضاره يلقن كل من تلامذته (محمد بن مسلم وأبي بكر الرازي) درس الحديث.

كنت دائما ما أعتاد التركيز على دور الجامعة وواجباتها ودور المعلم و واجباته حتى إذا ما بلغني من أحدهم: “لِم كان هذا شغلك الشاغل! فلتدعني أُخبرُكَ بالأدهَى والأمر، وهو زيدٌ على ألا يكون التعليم تعليما (فالطلاب ليست طلابا!)”. في الحقيقة هذه وجهة نظر سليمة بل أكاد أجزم أنها باتت ظاهرة، فكمٌ طالب يهدر وقته مرغما منذ ذهاب الصباح إلى إياب المساء دون أن يعطيه العلمُ بعضا منه!، بل كمٌ طالب يتلذذُ بترداد المنهجيات والأساليب السيئة ويقتاد كل يوم إلى تلك المُتن العمياء ويختبط به خُبطٌ عشواء ، فيضلونهم -جهلا- حيث أرادوا النجاح؟، وهو لم يفكر ولو لمرة “لمَ كلُ هذا!”. الآن لست بصدد بيان عورات؛ فكلنا ذوو سوءات.

(فالطلاب ليست طلابًا!).. بدأت أكتب في دور الطالب، حيث “كيف ننبذ هذه المفارقات؟”
أيا طالب العلم ما دفعني لكي أكتب إليك إلا عندما رأيت مباهاتك أيضًا مقتصرة على أثقال ما يحمله كاهلك من كتب و خطى ذهابك وإيابك. وقد قيل فيما يُؤثرُ عن بعض السلف: “العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وإذا أعطيته كلك فلست على ثقة في أن يعطيك بعضه”؛ مفاداً إلى أن إعطاءك التفرغ التام للعلم والدرس فحسب الجامعة أيضًا شرط ، وليس بوجود الشرط يوجد المشروط في حين أن تحقُق المشروط لابد له من وجود شرط آخر، وهذا هو محور هذه الكلمات .. وهنا السؤال أين هو (الشرط الآخر)؟

-قد يخدع الزمان طالب الجامعة في الوثوق به فسينفسح لديه الآمل -طبيعة الإنسان هي التأجيل والإمهال- ؛ فهو يثق بأن الزمان طويل وأن الفرص كثيرة مما يفسح الأمل لنفسه، لا يعلم أن طول الأمل يقتل العمل، لا يدري أن الفرص مضاعة لا تعوض ولا تقضى؛ فقد يجد فرصة لتمرين إضافي أو شرح زميل له ولكنه يؤجل، وفي هذا يقول (ابن ساعد): “أسباب الدنيا تكاد تتزايد على أعداد اللحظات، منها الضرورية وغيرها، وكلها شواغل”.

-قد يخدع الذكاء طالب الجامعة؛ يجعله ذلك يستمع إلى أمر لا يتأمله بل لا يلقي له السمع، يجد كتابا مهما فلا يقرأه، يجد فرصة للدرس فيتكل على ما عنده، فكمٌ ذكي فاته العلم لهذا السبب؛ فخدعه ظنه ولم يخبره أن العلم ليس بالذكاء وحده وإنما بالتحصيل والذكاء معا، وأما زعمه الذكاء هو ظن وتفكير قد يساعده وقد يخونه.

-إياك أن تكون ممن يزعمون أنفسهم ملمين؛ فينتقل أحدهم من علم إلى آخر قبل أن يحصِّل ما يستوجب حاجة المجتمع من علمه الأصلي أو قدرًا يعتد هو به، ينتقل من قراءة كتاب قبل ختمه، وهذه أمور كثيرة يعرفها الكثيرون فإن الصبر مفتاح العلم والمواظبة والمداومة أحب الأمور إلى الله، وفي هذا يقول نبينا الكريم: “أحب العمل لله ما داوم عليه صاحب” –رواه ابن ماجه-.

-إياك أن يحرمكَ العلمَ سوءُ الحفظ؛ فالعلم لا يكون بالكتب وإنما يكون بالإدراك واستقائه من الكتب لتكوين ملكات العقل، وما أدراك إذا ما صارت العلوم ملَكَات! ؛ فإنها بذلك تلبث لتغنيك عن حمل هذه الكتب، وكما قيل في هذا “فالعلم ما حُمل وليس العلم ما وُجد في القماطر والكتب”.
وإياك أن يحرمُكَ العلمَ سوءُ الإنصات وعدم إلقاء السمع و لعل هذا ما غاب من بين الكثير من طلاب جامعاتنا اليوم، يقول اللهُ عز وجل: {إِنَ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقِى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيدٌ} (ق-37). ثم إياك أن يحرمُكَ العلمَ سوءُ الفهم؛ فمتى لا تتآني حتى تتلقى العلم وتبادر بالإعتراض مع أول فكرة تتطرق إلى ذهنك فإنك تُحرَم العلمَ، فمن أساء فهما أساء إجابة، وكثير من الأمور يعيبها الإنسان وآفتها من الفهم السقيم.
“فكمٌ عائب قولا صحيحا … وآفته من الفهم السقيم!”

-يا مساكين، لا تتقاعسوا في السؤال؛ فالسؤال نصف العلم، فإذا سألت فإنك تتصور الأمر الذي تسأل عنه ولا يبقى إلا الجواب، فكل سؤال يستدعي العلم ويستخرجه من مكامنه. وفي هذا سئل (ابن عباس) فقيل له: بم أخذت هذا العلم، فرد قائلا: “بلسان سؤول وقلب عقول”. والآن عليك أن تسأل نفسك كم ترى من لسان شخص بن عباس من حولك؟

-أما فاسمع يا مسكين، من خزن علما ابتلاه الله بنسيانه وهذا فضلا عن العقوبة الأخروية التي تنتظره، وأعلم أن العمل بالعلم يعينك على تذكره وتدبره ويدعو إلى مراعاته وكثرة النظر فيه، وإذا ما أُهمِّلَ العملُ بالعلم نسيه صاحبه، ولذلك كان السلف الصالح يقولون: “كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به”.

-واعلم أن النية أقرب طريق إلى الجنة إن أخلصت، وأقرب طريق إلى النار إن نافقت. ثم لا تنشغل بإخوانك من الطلبة وما يدور بينهم سواءً كانت نزاعات أو أحقاد أو أحساد، فقط اجعل طلبك -العلم- بغيتك الفائدة واعرف قيمة ماتطلب ولماذا تطلبه، واستعذْ بالله من الشهوات ثم اعلمْ أن العلمَ سلوك ودعوة.

-لا يغرنك من حولك .. فالإقدام والشهامة وعدم المحاباة والكرم والطموح العالي يليق بك؛ فلا تكن متدنيا متراخيا فكثير من التزلف لا ينفع، وقال قائلٌ: أنا لا أختار تقبيل يدٍ .. قطعُها أجمل من تلك القُبَّلِ!

أما بعد؛ فيا من طال وراء طلب العلم مكثه، اعلمْ أنه ليس هناك شهادات لها سنوات يعتبر من لم يحزها خلالها قد تخلف عن الركب و استهدف للنقد والتعبير بما يثبط همته ويقعد بها عن بلوغ آمالها ولو بعد حين؛ فليكن من إقبالك الغاية وابتغاء المثوبة ودوام الأجر الموعود به، واعلمْ أن الأملَ لمن لم ينتهِ عمره، ورفه ذاتك عن قصد الغايات المادية الزائلة والمآرب الدنيوية العاجلة، فمن كانت هذه بواعثه ودوافعه نُظِر إليه على أنه نشاز ولقي التشهير والنكير، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم مٙن طلب العلمٙ ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء أو ليصرف به وجوه الناس إليه.

اعلم علم اليقين أنك متى اخذت العلم دون ذاك (الشرط الآخر) فإنك بذلك قد كلفت نفسك شططا.

في النهاية عزيزي الطالب الجامعي.. اجعل تحصيل العلم غايتك ومنتهى آمالك وملء رغباتك و اجعل من ساحاته موقع رباطك ومن سبله معاقل تأهيل جهادِكٙ الفكري، فحسب بل {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} (القصص-77)

أتمنى أن يكون رأيي ذاك لا يستدعيك أن تسرف في عطائك حسن الظن بِي-أي لعلني ممن ساروا على تلك المتن العمياء لتلك السراب البقيعة-؛ فتظن أنني ممن يعيشون في مدارج التعلم فيكتبون، بل أدعوك أن تقرأ في مدارج التعلم، وقتها ستكتشف أنك لست طالب علم بل مازلت (طويلب علم).

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة