للمرة الأولى، وبعد أكثر من أربعة عقود من التعتيم والقمع، أحيا السوريون ذكرى مجزرة حماة التي وقعت في فبراير/شباط 1982، في حدث شعبي ورسمي واسع، شهد مشاركة آلاف المواطنين في ساحة العاصي بمدينة حماة. 

الحدث حمل معه شهادات جديدة وتفاصيل لم تُكشف من قبل عن المجازر التي نفذها نظام حافظ الأسد، ووريثه لاحقًا بشار الأسد، بحق المدنيين في المدينة، عانى أهالي المدينة سنوات طويلة من القهر دون أن يتمكنوا من التحدث علنًا عن فقدان ذويهم في المجزرة التي نفذتها “سرايا الدفاع” بقيادة رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد. 

في حديثهم خلال إحياء الذكرى، عبّروا عن فرحتهم “التي لا توصف بعودة حقهم وحق سوريا بعد أعوام من الظلم”، وطالبوا بمحاسبة عائلة الأسد على الجرائم التي ارتكبوها، وحرمانهم آلاف العائلات السورية من ذويهم.

يروي الناجون قصص مروعة عن مقتل أفراد عائلاتهم في سجن تدمر العسكري بعد اعتقالهم من منازلهم خلال أحداث المجزرة، مشيرين إلى أن “حافظ الأسد وأخاه رفعت كانا يريدان إخضاع سوريا من خلال حماة، التي بدأت ثورتها في 1982، ولكن اليوم حماة حرّة وهي التي بقيت”. هذه الشهادات وغيرها جسدت المآسي التي لحقت بالمدينة، حيث تشير التقارير الحقوقية إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، وفقدان أكثر من 100 ألف آخرين، مع تدمير أحياء بأكملها.

كشف المستور: جرائم النظام التي لم تظهر سابقًا

بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأت تتكشف تفاصيل جديدة عن المجزرة. أفادت تقارير وشهادات الناجين بأن قوات حافظ الأسد عمدت إلى دفن الضحايا في مقابر جماعية، ثم عادت ودمرتها لاحقًا لإخفاء أي دليل على حجم الجرائم المرتكبة. كما تم العثور على وثائق مسربة من أجهزة الأمن السورية، توضح أوامر مباشرة بتنفيذ عمليات الإعدام الجماعية داخل السجون، مثل سجن تدمر وصيدنايا، حيث تم تصفية الآلاف دون محاكمة.

وخلال إحياء الذكرى، رفع أبناء الضحايا صورًا وملصقات تذكّر بالمفقودين، فيما حمل الفرسان صور شهداء المجزرة ولافتات بأسمائهم. كما شارك في الفعالية السجناء المحررون من سجن تدمر، الذين أمضوا سنوات طويلة في الأسر بسبب اعتقالهم عقب المجزرة.

 

محاولات الطمس والتشويه: كيف أخفى نظام الأسد آثار الجريمة؟

على مدار العقود الماضية، بذل نظام الأسد جهودًا مكثفة لطمس حقيقة مجزرة حماة وإخفاء معالمها. فقد أزال العديد من المباني التي كانت شاهدة على المجزرة، وحرّف الروايات التاريخية، بل وأصدر روايات رسمية مزيّفة تُقلل من حجم الجرائم المرتكبة. كما تم تحويل بعض المناطق التي احتوت مقابر جماعية إلى منشآت حكومية أو تجارية لإخفاء معالم الجريمة.

لكن مع سقوط النظام، بدأت فرق حقوق الإنسان والباحثون في توثيق هذه الجرائم، حيث تم الكشف عن مواقع كانت تستخدم لإعدام المعتقلين ودفنهم سرًا. كما ظهرت وثائق جديدة تثبت تورط الأجهزة الأمنية السورية في عمليات القتل الجماعي.

 

حدث تاريخي ورسالة إلى الأجيال القادمة

شهدت الفعالية عرضًا عسكريًا لقوات الأمن العام والجيش العربي السوري الجديد، إلى جانب كلمات لعدد من الشخصيات الثورية، من بينهم محافظ حماة عبد الرحمن السهيان، الذي أكد في خطابه “ضرورة التمسك بإحياء هذه الذكرى دائمًا، لعدم نسيان دماء الشهداء ولتبقى ذكراهم خالدة في أذهان الأجيال المقبلة”. كما تخلل الفعالية أغانٍ ثورية، كانت تُردد منذ بدء الثورة السورية، ورسائل تذكّر بتضحيات أبناء المدينة.

الفعالية لم تقتصر على يوم واحد، بل أعلن منظموها أنها ستستمر لثلاثة أيام، تتضمن ملتقيات أدبية، وعرض شهادات حية لشهود عاشوا المجزرة، بالإضافة إلى عرض مسرحي يحاكي ما جرى في تلك الأيام الدامية. ويؤكد القائمون على الفعالية أن “إحياء ذكرى المجزرة لأول مرة في وسط حماة بعد سنوات من الثورة هو رسالة للعالم أن سوريا لن تنسى شهداءها، وأن الظلم مهما طال فمصيره الزوال”.

وبين مشاعر الفرح بالتحرر والألم لاستذكار الجرائم المرتكبة، يُجمع أهالي حماة على مطلب واحد: محاكمة بشار الأسد وكل المسؤولين عن المجازر التي ارتكبها النظام السوري على مدار عقود، حتى ينال الضحايا العدالة التي طال انتظارها. ويرى الناشطون أن تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي المجازر هو السبيل الوحيد لضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل.

ويؤكد الحقوقيون أن المحاكمات يجب أن تشمل ليس فقط مرتكبي المجازر من القادة العسكريين، ولكن أيضًا المسؤولين السياسيين الذين أعطوا الأوامر، كما يطالبون بفتح تحقيقات دولية في جميع المجازر التي ارتكبها النظام السوري، وليس فقط مجزرة حماة.

 

خاتمة: يوم للحرية والعدالة

إحياء ذكرى مجزرة حماة بعد سقوط نظام الأسد ليس مجرد مناسبة سنوية، بل هو خطوة نحو استعادة الحقوق والعدالة. هو يومٌ يُذكر السوريين والعالم كله بحجم المأساة التي عاشتها البلاد، ولكنه أيضًا يوم للأمل في مستقبل خالٍ من القمع والديكتاتورية.

مع استمرار الفعاليات وإعادة إحياء ذكرى الشهداء، تبقى مجزرة حماة رمزًا للدماء التي سالت في سبيل الحرية، وصوتًا يطالب بالعدالة في سوريا ما بعد الأسد.

 

اقرأ أيضًا : USAID تحت مقصلة ترامب.. عندما فضح الصراع السياسي آلة النفوذ الأمريكي القذرة