في مشهد غير مألوف داخل مصر، شهد معبر رفح الحدودي حشودًا ضخمة من المتظاهرين المصريين الرافضين لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، في وقفات شعبية جاءت استجابة لدعوات أطلقتها أحزاب سياسية مصرية تابعة للنظام.
هذا الحدث، رغم ما يحمله من دلالات تضامنية مع القضية الفلسطينية، يثير العديد من التساؤلات حول حقيقة موقف النظام المصري من قضية التهجير القسري، وما إذا كانت هذه التحركات عفوية أم أنها تخدم أجندة سياسية محددة؟
مصر.. قمع الحراك الشعبي لكن يسمح بهذه المظاهرات؟
منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، تشهد مصر واحدة من أقسى موجات القمع ضد التظاهرات والحراك الشعبي. قانون التظاهر، الذي صدر عام 2013، منح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة لقمع أي تجمعات غير مرخصة، وسُجن بسببه عشرات الآلاف من الناشطين والمعارضين، بمن فيهم أشخاص تظاهروا سلمياً ضد سياسات داخلية أو خارجية.
لكن، وعلى غير العادة، خرجت هذه المظاهرات التي رفضت تهجير الفلسطينيين دون أي تدخل أمني عنيف، رغم أن النظام المصري سبق واعتقل متظاهرين شاركوا في وقفات احتجاجية رفضًا للحرب على غزة وعمليات الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل. فلماذا يُسمح بهذا الحراك الآن؟ وهل هو جزء من تحرك مدروس لتحقيق مكاسب سياسية للنظام؟
السيسي والتلاعب بورقة التهجير
السيسي، الذي يحاول تقديم نفسه كلاعب أساسي في القضية الفلسطينية، سبق وأدلى بتصريحات تتعارض مع موقفه المعلن اليوم. في أحد تصريحاته العلنية، قال إنه يمكن تهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب بدلاً من سيناء، وهو اقتراح أثار مخاوف كثيرة بشأن مدى استعداده للقبول بحلول تساهم في إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة.
كما أن مصر لم تتخذ موقفًا حازمًا ضد التصريحات الأمريكية والإسرائيلية حول التهجير، بل اكتفت ببيانات دبلوماسية لا تتجاوز حد “الرفض اللفظي”، في حين تتحدث التقارير عن استمرار الخطط الأمريكية والإسرائيلية لتمرير مخطط إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء.
هل هناك خلافات داخلية بين المستوى السياسي والعسكري؟
الجيش المصري لطالما اعتبر سيناء منطقة حساسة أمنيًا واستراتيجيًا، ويعارض بشكل واضح أي سيناريوهات قد تؤدي إلى وجود دائم للفلسطينيين هناك. في المقابل، لا يبدو أن المؤسسة السياسية تحت قيادة السيسي تتبنى الموقف نفسه بنفس الحدة، مما قد يشير إلى وجود خلافات داخلية بين القيادات العسكرية والمستوى السياسي حول مستقبل سيناء والموقف من الضغوط الأمريكية.
إذا صحت هذه الفرضية، فقد تكون المظاهرات الشعبية التي سمح بها النظام هي رسالة للمؤسسة العسكرية أن المستوى السياسي يرفض الترتيبات الدولية القادمة، وربما تعبيرا لموقف رمزي مفاده أن أي تنازل مصري سيكون بمثابة “خيانة للرأي العام المصري”، وبالتالي رفع ثمن أي صفقة يمكن تمريرها مستقبلاً.
مظاهرات تحت رقابة الدولة.. رفع الثمن أم تهدئة الشارع؟
المشهد الحالي يطرح احتمالين رئيسيين:
أولهما : رفع ثمن القبول بصفقة التهجير:
- السماح بهذه المظاهرات قد يكون رسالة لواشنطن وتل أبيب بأن القبول المصري بمخطط التهجير لن يكون مجانياً، وقد يستخدم النظام المصري هذه الورقة للحصول على تعهدات مالية أو سياسية أو دعم اقتصادي أمريكي أكبر مقابل تمرير أي ترتيبات مستقبلية.
- تهدئة الشارع المصري:
- رغم القبضة الأمنية القوية، فإن النظام يدرك أن ملف فلسطين لا يزال قضية حساسة لدى الشارع المصري، وأن السماح بمثل هذه المظاهرات يمكن أن يخفف من الاحتقان الشعبي، حيث قد تكون هذه المظاهرات مجرد متنفس محدود ومدروس، بحيث يتم احتواؤها وعدم السماح لها بالتحول إلى احتجاجات أوسع ضد سياسات النظام.
أين يتجه المشهد؟
حتى اللحظة، لا يزال الموقف الرسمي المصري غامضًا. وبينما يواصل السيسي إظهار الرفض العلني للتهجير، فإن الغموض يحيط بتحركاته الحقيقية، خاصة في ظل التصريحات الأمريكية والإسرائيلية الواثقة.
ويبقى السؤال الأهم: هل ما نشهده اليوم هو رفض حقيقي ضد تهجير الفلسطينيين، أم مجرد استعراض سياسي يُستخدم كورقة ضغط في لعبة المفاوضات الدولية؟
الأيام القادمة كفيلة بالإجابة، لكن ما هو مؤكد أن القضية الفلسطينية لا تزال ورقة مساومة بين الأنظمة العربية والقوى الدولية، ولو سُمح للشعوب العربية أن تعبر عن موقفها فسترفض قطعا أي مساس بالحقوق الفلسطينية الأصيلة.
اضف تعليقا