في الحادي والعشرين من آذار/مارس 1968، وبينما كانت الأمة العربية تلملم جراح نكسة حزيران/يونيو 1967، دوّى صوت معركة مختلفة، خرج منها العرب لأول مرة بنصر عسكري ومعنوي على الجيش الإسرائيلي.

إنها معركة الكرامة، التي وقعت في بلدة الكرامة الأردنية، وشكّلت شرارة أمل أعادت التوازن ولو جزئياً للوجدان العربي، ورسّخت صورة جديدة للمقاومة الفلسطينية، باعتبارها القوة الوحيدة التي تجرأت على الوقوف في وجه الاحتلال.

مرت 57 سنة على تلك الملحمة، لكنها ما زالت حاضرة في الذاكرة الشعبية كرمز لانتصار الإرادة والكرامة العربية على الغطرسة الإسرائيلية. 

هي المعركة التي كسرت حاجز الخوف، ودفنت وهم “الجيش الذي لا يُقهر”، وفتحت الباب أمام جيل جديد من المقاومين العرب والفلسطينيين الذين رأوا في بندقيتهم مشروع كرامة لا مشروع موت.

الكرامة: معركة بدأت بقصف وانتهت بانسحاب مذل للاحتلال

في فجر يوم الخميس، 21 آذار/مارس 1968، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي هجوماً واسع النطاق على الضفة الشرقية لنهر الأردن، مستهدفاً بلدة الكرامة وما حولها. 

الهجوم لم يكن مفاجئاً، فقد كان الاحتلال يسعى منذ أشهر إلى ضرب قواعد الفدائيين الفلسطينيين المنتشرين قرب الحدود، والذين نفذوا عمليات نوعية داخل الأراضي المحتلة أربكت المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

بدأ الهجوم في الساعة الخامسة والنصف صباحاً بقصف مدفعي كثيف على مواقع قوات الجيش الأردني المعروفة بـ”قوات الحجاب”، والتي شكلت خط الدفاع الأول. 

ثم أعقبه تحرك على ثلاثة محاور: جسر الملك حسين، وجسر دامية، وجسر الملك عبد الله.

كانت الخطة الإسرائيلية تهدف إلى إطباق سريع على المقاومة، وتنفيذ عملية خاطفة تنتهي بتدمير البنية التحتية للفدائيين، وإرسال رسالة ردع للجبهة الشرقية.

لكن الحسابات الإسرائيلية لم تكن دقيقة، فقد واجههم الجيش الأردني بمقاومة شرسة، وردّت المدفعية الأردنية بضراوة، مستهدفة الجسور الثلاثة ومناطق التمركز، ما أدى إلى تعطيل التقدم الإسرائيلي. 

ومع انطلاق الاشتباكات المباشرة، التحم الفدائيون الفلسطينيون وأهالي البلدة بالجيش الأردني في ملحمة مقاومة استمرت لأكثر من 16 ساعة، أجبرت جيش الاحتلال على التراجع والانسحاب الكامل، بعد أن تكبد خسائر فادحة.

في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، طلبت إسرائيل وقف إطلاق النار – للمرة الأولى في تاريخها العسكري – في مشهد حمل دلالة عميقة على حجم المفاجأة التي تلقاها الاحتلال، وحجم الخسارة التي لحقت به عسكرياً ونفسياً.

نصر رغم الفارق في العتاد: الكرامة انتصرت بالإرادة

المفارقة الكبرى في معركة الكرامة لم تكن في النتيجة، بل في الميزان العسكري غير المتكافئ.

بحسب تقارير مديرية التوجيه المعنوي الأردنية، فقد دفعت إسرائيل بقوة ضخمة تشمل أربعة ألوية (مدرع ومشاة ومظليين ودبابات)، مدعومة بـ5 كتائب مدفعية، و4 أسراب طائرات مقاتلة، ومروحيات هجومية. 

في المقابل، تصدى لها الجيش الأردني ممثلاً بفرقة المشاة الأولى (لواء حطين، عالية، القادسية)، مدعومة باللواء المدرع 60، إلى جانب كتيبة دبابات وثلاث كتائب مدفعية وكتيبة هندسة.

ورغم هذا التفوق العددي والنوعي، فشلت إسرائيل في تحقيق أي هدف استراتيجي أو ميداني. تكبد جيش الاحتلال، بحسب التقديرات الأردنية، ما لا يقل عن 250 قتيلاً وأكثر من 450 جريحاً، وتدمير 88 آلية من بينها 47 دبابة و18 ناقلة جند، وسقوط 7 طائرات.

أما على الجانب العربي، فقد استُشهد 86 جندياً أردنياً وأُصيب 108، بينما سقط حوالي 100 من الفدائيين الفلسطينيين. ورغم هذه الخسائر، خرج الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية من المعركة مرفوعي الرأس، بعد أن سجّلوا أول نصر عسكري بعد هزيمة 1967، ما كان له أثر معنوي لا يُقدّر بثمن في الوجدان العربي.

تداعيات المعركة: من اليأس إلى الأمل، ومن الفدائي إلى الرمز

شكلت معركة الكرامة نقطة انعطاف في مسار القضية الفلسطينية، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً واجتماعياً أيضاً. 

فقد فتحت المعركة الأبواب أمام تدفق غير مسبوق من المتطوعين إلى صفوف المقاومة، خاصة من المثقفين وحملة الشهادات الجامعية، الذين رأوا في السلاح وسيلة لاستعادة الكرامة وليس وسيلة تدمير.

وشهدت العواصم العربية، خاصة عمان وبيروت والقاهرة، مظاهرات حاشدة لتشييع الشهداء، وتحولت معركة الكرامة إلى حدث إعلامي دولي، وضع المقاومة الفلسطينية على الخارطة السياسية العالمية. حتى بعض الشباب الأجانب، المتعاطفين مع القضايا العادلة، قرروا الانضمام إلى صفوف الفدائيين.

ولم تكن المعركة نقطة تحول في المزاج الشعبي فقط، بل أعادت جزءاً من الكرامة المهدورة بعد نكسة حزيران، وكسرت الهالة التي أحاطت بالجيش الإسرائيلي. 

لقد أدرك العرب أن الاحتلال ليس أسطورة لا تُقهر، وأن توازن القوى لا يُقاس فقط بالعتاد، بل بالإرادة والوعي والإصرار.

وفي هذا السياق، قال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات:

“معركة الكرامة شكلت نقطة انقلاب بين اليأس والأمل، ونقطة تحول في التاريخ النضالي العربي، وتأشيرة عبور القضية الفلسطينية لعمقيها العربي والدولي”.

معركة الكرامة اليوم: من ذاكرة الانتصار إلى واقع المقاومة

بعد 57 عاماً، يعود الحديث عن معركة الكرامة كجزء من تاريخ طويل من النضال العربي والفلسطيني ضد الاحتلال، في زمن تتسارع فيه محاولات التطبيع مع إسرائيل، وتحاول الأنظمة العربية دفن القضية الفلسطينية تحت ركام الاتفاقيات، تبدو ذكرى الكرامة أكثر أهمية من أي وقت مضى.

فهي تذكّرنا بأن الشعوب العربية، مهما خذلتها أنظمتها، قادرة على تحقيق الانتصار متى امتلكت الإرادة. وهي تذكرنا أيضاً بأن المقاومة، رغم كل الضغوط، لم تُولد من فراغ، بل من معارك حقيقية، دفع فيها العرب والفلسطينيون ثمناً باهظاً، لكنه لم يذهب سدى.

إن معركة الكرامة ليست فقط انتصاراً عسكرياً، بل حالة وعي يجب أن تستمر، كي لا تضيع البوصلة وسط بحر من التطبيع والاستسلام. 

فحين تصدح أصوات المقاومة في غزة، والضفة، والقدس، فإنها تنطلق من جذور الكرامة، من لحظة تاريخية جسدت أمل أمة، وكتبت بدمائها أن “الكرامة لا تُسترد إلا بالمقاومة”.

اقرأ أيضا : بعد رفع السرية عن وثائق جديدة.. هل قتلت إسرائيل الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي؟