في مشهد يحمل أصداء تاريخية موجعة، أفرجت إسرائيل عن مئات الأسرى الفلسطينيين ضمن اتفاق تبادل الأسرى الذي انطلق منذ 19 يناير 2025، في عملية وصفت بأنها أقرب إلى إنقاذ الناجين من معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
الأجساد الهزيلة التي خرجت من السجون الإسرائيلية، وقد فتكت بها الأمراض وسوء المعاملة والتعذيب الممنهج، كشفت حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون في المعتقلات، حيث تتحول الزنازين إلى أماكن للإبادة البطيئة تستهدف كسر صمود المعتقلين وتشويه إنسانيتهم.
عشرات الأسرى الذين خرجوا إلى الحرية لم يستطيعوا الوقوف على أقدامهم، عظامهم بارزة، ووجوههم شاحبة، في صورة تذكّر العالم بمشاهد فتح معسكرات الاعتقال النازية عندما حرر الحلفاء الناجين من أهوال التجويع والتعذيب المنهجي.
لم تكن هذه المشاهد مفاجئة لمنظمات حقوق الإنسان التي وثّقت الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين، إذ أكدت تقارير متعددة أن السجون الإسرائيلية تحولت إلى مراكز تعذيب جماعي، حيث يُحتجز الفلسطينيون في ظروف غير إنسانية تتسم بالإهمال الطبي، التغذية السيئة، والإساءات الجسدية والنفسية، في ممارسات ترقى إلى جرائم حرب وفق القانون الدولي. لم يكن الأمر مقتصرًا على الاعتقال فقط، بل كانت سياسة إسرائيل داخل السجون تقوم على استنزاف أجساد المعتقلين عبر حرمانهم من الطعام الكافي، وإبقائهم في ظروف سيئة تجعلهم عرضة لأمراض خطيرة، تمامًا كما كان يحدث في معسكرات الاعتقال النازية التي صُمّمت لإذلال المعتقلين وإبادتهم ببطء.
خرج الأسرى الفلسطينيون وقد تحولت أجسادهم إلى هياكل عظمية، بوجوه شاحبة وعيون غائرة، أشبه بمعتقلي أوشفيتز وداخاو الذين حررهم الحلفاء في عام 1945 ليجدوا أنفسهم أمام بشر بالكاد قادرين على الوقوف، فقدوا عشرات الكيلوغرامات من أوزانهم، وعانوا من سوء التغذية الحاد والأمراض المعدية التي انتشرت بفعل الظروف اللاإنسانية التي تعرضوا لها. لم يكن الفرق كبيرًا بين الضحايا الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والناجين من المحارق النازية، فكلاهما مرّا بأنظمة قمعية تستخدم السجون كأداة للتعذيب وكسر الروح الإنسانية.
رغم كل ذلك، لا تزال إسرائيل تحاول التهرب من المحاسبة الدولية، مستندة إلى الدعم السياسي الذي تحصل عليه من الدول الغربية، تمامًا كما حاول النازيون التستر على فظائعهم حتى سقوطهم. الفرق الوحيد هو أن الجرائم التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين موثقة أمام أعين العالم، ولكن المجتمع الدولي لا يزال مترددًا في اتخاذ إجراءات فعلية ضد إسرائيل رغم وضوح جرائمها. إن السجون التي يديرها الاحتلال لا تختلف عن معسكرات الاعتقال التي أنشأها النازيون، حيث يتحول المعتقلون إلى مجرد أرقام تُستخدم للمساومة السياسية أو تُترك للموت البطيء دون أن يلتفت إليهم أحد.
الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين لم يكن نتيجة حسن نية من إسرائيل، بل جاء ضمن اتفاق تبادل الأسرى الذي شهد حتى الآن تحرير 769 أسيرًا فلسطينيًا مقابل 16 إسرائيليًا. كانت الدفعة الأولى من التبادل قد بدأت في 19 يناير 2025 عندما أُفرج عن 90 أسيرًا فلسطينيًا مقابل 3 إسرائيليات، ثم تبعتها دفعات أخرى شملت الإفراج عن 200 فلسطيني مقابل 4 إسرائيليات، و110 فلسطينيين مقابل 3 إسرائيليين و5 عمال تايلانديين، وصولًا إلى 183 فلسطينيًا في آخر دفعة، بينهم 111 من غزة، مقابل 3 إسرائيليين. هذه النسبة تكشف بوضوح مدى اتساع سياسة الاعتقالات العشوائية التي تتبعها إسرائيل، حيث يتم احتجاز الفلسطينيين بالجملة، دون محاكمات عادلة، ثم استخدامهم كأوراق ضغط في صفقات سياسية.
بعد تحرير مئات الأسرى الفلسطينيين، بدأت الحقائق تتكشف عن الظروف التي عاشوا فيها داخل السجون الإسرائيلية، حيث أبلغ الكثيرون عن تعرضهم لعمليات تعذيب يومية، شملت الضرب الوحشي، الحرمان من النوم، والإهانة المستمرة. بعض الأسرى الذين أُطلق سراحهم خرجوا وهم يعانون من شلل جزئي أو مشاكل صحية مستعصية نتيجة الإهمال الطبي والتغذية القاتلة التي فرضها الاحتلال عليهم. هذه الانتهاكات لا تقل بشاعة عما حدث في معسكرات النازية، حيث استُخدم التجويع والتعذيب كأدوات للإبادة الجماعية، والهدف واحد: سحق المعتقلين وإنهاء أي مقاومة داخلية قد تنشأ في نفوسهم.
رغم محاولات إسرائيل ترويج نفسها كدولة “ديمقراطية”، فإن السجون التي تديرها تحولت إلى نسخة حديثة من معسكرات الاعتقال النازية، حيث يُترك الأسرى الفلسطينيون بلا طعام كافٍ، محرومين من العناية الطبية، وتُمارس بحقهم شتى أنواع التعذيب، ما يؤدي إلى أمراض مزمنة، إعاقات دائمة، وحتى الوفاة. هذا النمط من الإبادة الصامتة يعيد إلى الأذهان الأساليب التي اعتمدتها ألمانيا النازية، حيث تم استخدام الجوع والمرض كأدوات قهر ممنهجة لتدمير المعتقلين جسديًا ونفسيًا، وهو بالضبط ما يتعرض له الفلسطينيون اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي ظن فيه البعض أن وقف إطلاق النار قد يجلب استقرارًا ولو مؤقتًا للفلسطينيين، استمرت إسرائيل في انتهاكاتها اليومية داخل السجون وخارجها. لم يكن الإفراج عن الأسرى سوى جزء صغير من واقع أوسع يعكس استمرارية الاحتلال في استخدام القمع والتعذيب كأدوات للحكم. فحتى بعد وقف إطلاق النار، استمرت الاعتقالات الجماعية في الضفة الغربية، حيث شنت قوات الاحتلال حملات اقتحام ليلية للمدن والمخيمات، واعتقلت عشرات الفلسطينيين، بينهم أطفال ونساء، بهدف إعادة ملء السجون بالمزيد من المعتقلين استعدادًا لجولات تفاوض مستقبلية.
إضافة إلى ذلك، كشفت شهادات الأسرى المحررين عن تصعيد في الانتهاكات داخل السجون الإسرائيلية حتى بعد وقف إطلاق النار، حيث لجأت سلطات الاحتلال إلى فرض مزيد من القيود، وتقليص الوجبات الغذائية، وحرمان المعتقلين من ساعات الخروج القليلة إلى الهواء الطلق، في محاولة للانتقام منهم بعد عمليات التبادل الأخيرة. كما أفاد بعض الأسرى المحررين بأن الاحتلال كان يتعمد تأخير الإفراج عن بعضهم، ويخضعهم لجلسات تحقيق وتعذيب إضافية قبل خروجهم، في تأكيد جديد على أن إسرائيل لا تعترف بأي التزامات إنسانية أو قانونية تجاه المعتقلين.
رغم حجم الجرائم التي كشف عنها تحرير الأسرى، لم تحرك المؤسسات الدولية ساكنًا تجاه الانتهاكات المستمرة داخل السجون الإسرائيلية، وكأن ما جرى لم يكن سوى “حادث عرضي” يمكن تجاوزه. في المقابل، فإن الاحتلال مستمر في إدارة ملف الأسرى كأداة ابتزاز سياسي، حيث يحاول استغلال المعتقلين الفلسطينيين كورقة مساومة لتحقيق مكاسب دبلوماسية وأمنية، دون أي اكتراث لحياتهم أو لحقوقهم الأساسية.
مع استمرار الاحتلال في نهجه الإجرامي، فإن تحرير عدد من الأسرى لن يكون كافيًا لإنهاء معاناة آلاف الفلسطينيين الذين ما زالوا يقبعون في السجون، يعانون من التعذيب، الإهمال الطبي، والتجويع القسري. لا يمكن اعتبار عمليات التبادل التي جرت انتصارًا كاملًا ما دام هناك آلاف الأسرى في زنازين الاحتلال يتعرضون للممارسات نفسها التي شهدها الناجون من معسكرات الاعتقال النازية. الفرق الوحيد أن تلك الجرائم موثقة بالصوت والصورة، ومع ذلك لا يزال العالم يتجاهلها.
كما انهار النظام النازي أمام هول الجرائم التي ارتكبها، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في سياساته القمعية لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. لا يمكن أن يكون مصير السجون الإسرائيلية مختلفًا عن معسكرات الاعتقال التي سقطت مع سقوط الفاشية في أوروبا، ولا يمكن أن يبقى ملف الأسرى الفلسطينيين خاضعًا للابتزاز والتلاعب السياسي. المحاسبة هي السبيل الوحيد لإنهاء هذه الجرائم، وإسرائيل، مهما امتلكت من دعم دولي، لن تستطيع إخفاء ما يجري في سجونها، تمامًا كما لم يستطع النازيون إخفاء ما ارتكبوه في معسكراتهم.
هل سيُترك الأسرى الباقون لمصيرهم؟
رغم أن عمليات التبادل تشكل خطوة إنسانية ضرورية، إلا أنها ليست كافية لإنهاء معاناة آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال. فإسرائيل لا تزال تحتجز أكثر من ١٠ آلاف أسير فلسطيني، بينهم نساء وأطفال وصحفيون، وتواصل اعتقال المزيد كل يوم. ووقف إطلاق النار، رغم أنه خفف من وطأة الحرب مؤقتًا، لا يزال هشًا ومعرضًا للانهيار، خصوصًا مع استمرار إسرائيل في اعتقال الفلسطينيين والاعتداء على الضفة الغربية.
المطلوب الآن هو تحرك فوري من الدول العربية والإسلامية، وعدم الاكتفاء بدور المراقب، بل ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل للإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين، وإنهاء سياسة الاعتقال الإداري التي تسمح للاحتلال بحبس الفلسطينيين دون توجيه تهم أو محاكمة. كذلك، على المجتمع الدولي فتح تحقيقات جنائية في معاملة إسرائيل للأسرى الفلسطينيين، تمامًا كما تم فتح تحقيقات في الجرائم النازية بعد الحرب العالمية الثانية.
اضف تعليقا