في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون المساعدات الإنسانية شريان حياة للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، تحوّلت نقاط توزيع هذه المساعدات إلى مسارح للقتل الممنهج بحق الجوعى من المدنيين، وذلك ضمن آلية جديدة عملت على تنفيذها شركة أميركية باسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، مدعومة مباشرة من إسرائيل، وبغطاء أميركي سياسي وأمني.

آلية أميركية بإشراف إسرائيلي

بدأت “مؤسسة غزة الإنسانية” عملها في 26 مايو/أيار 2025، عبر أربع نقاط رئيسية لتوزيع المساعدات: ثلاث في تل السلطان جنوب القطاع، وواحدة على محور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه.

وقد أُوكلت مهام الحراسة وتنظيم الحشود إلى متعاقدين أمنيين أميركيين وشركات خاصة مجهولة التمويل، لكن تقارير صحفية كشفت مؤخرًا أن وزارة الخارجية الأميركية تدرس تخصيص 500 مليون دولار لهذه المؤسسة، مما يضع علامات استفهام كبرى حول أهداف هذه المبادرة.

عداد الموت يبدأ مع أول شحنة

منذ اللحظة الأولى لتدشين نقاط التوزيع، سقط ضحايا برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء تجمع المواطنين لاستلام حصصهم من الغذاء.

خلال أسبوعين فقط من بدء العمل، ارتفع عدد الشهداء إلى 224 شخصًا، وأُصيب أكثر من 1850 بجروح متفاوتة، في مشهد بات يتكرر يوميًا مع كل دفعة مساعدات.

قوات الاحتلال تطلق النار بشكل مباشر على الحشود الجائعة، بحجة ضبط الأمن أو منع الفوضى. 

غير أن المعطيات الميدانية ومقاطع الفيديو المنتشرة تُظهر استهدافًا متعمدًا للمدنيين، لا سيما النساء والأطفال، الأمر الذي حوّل هذه النقاط من أماكن نجاة إلى “مصائد موت”، بحسب توصيف المفوضية العامة لـ”أونروا”.

رفض أممي وتنديد واسع

منذ الإعلان عن الآلية الأميركية-الإسرائيلية لتوزيع المساعدات، أعلنت الأمم المتحدة رفضها للمشاركة، معتبرة أنها تفتقر إلى الحياد والنزاهة، وهي المعايير الأساسية للعمل الإنساني في مناطق النزاع. كما وصفتها “أونروا” بأنها “نظام مهين” وغير آمن لتقديم الإغاثة.

أما حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فقد وصفت الآلية بأنها “غطاء إنساني زائف”، يهدف إلى استنزاف ما تبقى من قوى الشعب الفلسطيني في إطار سياسة تجويع وإبادة. وفي بيان صدر الثلاثاء، قالت الحركة إن أكثر من 150 شهيدًا سقطوا في تلك النقاط، من بينهم أطفال ونساء، مما يعكس الطبيعة الإجرامية للآلية المعتمدة.

التواطؤ الأميركي المكشوف

يتضح من مجريات الأحداث أن الإدارة الأميركية لم تكتف بدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، بل ذهبت إلى حد التورط المباشر في خلق نظام توزيع مساعدات إنساني مزيّف، يخدم أهدافًا أمنية واستراتيجية في المنطقة.

تمويل شركات أمنية خاصة للعمل في بيئة عسكرية محتلة، دون رقابة أممية أو محلية، يشير إلى وجود نية مبيتة لاستغلال الوضع الإنساني في غزة كأداة من أدوات الحرب.

ومع ازدياد عدد الضحايا يومًا بعد يوم، أصبح من الجلي أن نقاط توزيع المساعدات لم تكن سوى فخاخ معدّة مسبقًا، هدفها بث الذعر وترسيخ مشهد الانهيار، ضمن حرب نفسية ترافق الحرب العسكرية الإسرائيلية ضد سكان القطاع.

إبادة جماعية على مرأى العالم

لا يمكن فصل هذه المجازر المتكررة عن السياق الأوسع للحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكثر من 8 أشهر، والتي أوقعت حتى الآن أكثر من 182 ألف شهيد وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، وخلّفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية ونزوحًا قسريًا لمئات الآلاف.

ورغم صدور أوامر من محكمة العدل الدولية بوقف العمليات الإسرائيلية، فإن تل أبيب تواصل تجاهل القانون الدولي، مدفوعة بالدعم الأميركي الكامل. والنتيجة أن القطاع اليوم يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الـ21، وسط صمت دولي مطبق.

خاتمة: عندما يصبح الخبز فخًا

إن تحوّل نقاط توزيع المساعدات إلى مصائد موت يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أميركي مباشر، يستخدم الجوع كسلاح لإخضاع الفلسطينيين، ويجرّم الحق الإنساني في الغذاء والبقاء. وإن استمرار هذه الممارسات دون تدخل دولي حاسم يضفي شرعية ضمنية على جرائم حرب مكتملة الأركان، ويدفع نحو ترسيخ سياسة الحصار كأداة للإبادة الجماعية.

اقرأ أيضًا : عودة مسيّرات حماس ترعب الاحتلال: راحة ميدانية ومناورة تثير القلق في تل أبيب