لا تزال ملابسات الهجوم المسلح الأخير الذي تم تنفيذه على قصر السلام الملكي في جدة تثير حيرة غير مسبوقة للأجهزة الأمنية السعودية، دفعتها للاستنفار المعلوماتي لمحاولة فك طلاسمه، خاصة أن منفذ الهجوم “منصور آل فهيد العامري” لا يوجد لديه أي سجل جهادي أو متطرف، من قريب أو من بعيد…

فإلى الآن لم تتمكن الجهات الأمنية السعودية من رصد أية آثار لاتصالات بين منفذ الهجوم، الذي قتل حينها، وأشخاص أو جهات جهادية داخلية أو خارجية، وهو ما يزيد القلق من احتمالية كون الهجوم تلقائيا من مواطن عادي نجح فقط في توفير سلاح.

“العامري” ليس فقط مواطنا عاديا، بل من عائلة وعشيرة معروفة بهدوئها وقربها من دائرة الدعم الشعبي للأنظمة بالمملكة، وعلى سبيل المثال، فمنفذ الهجوم قد قتل ابن عمه “أسامة آل فهيد العامري”، خلال خدمته العسكرية بمنطقة الحد الجنوبي السعودي ضد الحوثيين، وشكلت تلك المفارقة منطلقا لمقارنة أجرتها وسائل إعلام سعودية بين رجل ضحى من أجل وطنه “أسامة”، وآخر ضحى بأمن وطنه “منصور”.

شاب منفتح

منفذ الهجوم أيضا عرف بكونه شابا منفتحا اجتماعيا، وليس منغلقا، كعادة الشباب المتورطين في هجمات مماثلة، من دون أن يعرف لهم انتماء جهادي، فمعظم هؤلاء الشباب كانت تعلن الجهات الأمنية السعودية أنهم كانوا منطوين، لا يتكلمون مع أحد، يتعاملون ببعض العدوانية مع الأهل والأصدقاء والأقارب، لكن “منصور العامري” كان شابا عاديا منفتحا يحضر كافة المناسبات الاجتماعية، يمزح ويضحك ويلقي النكات، لم يعثر في وسائل اتصاله على أي أثر للتواصل مع جهاديين أو متطرفين، وهو ما زاد من غموض الأمر.

وإذا كانت الأجهزة الأمنية السعودية تشعر بالقلق وتكثف جهودها، متمنية أن تجد رابطا – ولو بسيطا – بين منصور وأي تنظيم جهادي أو حتى صلات شخصية بأحد المحسوبين على تلك التنظيمات، ليكون تفسير الأمر منطقيا، فإن ولي العهد محمد بن سلمان لا يبدو أنه مستعد للتعامل ببساطة مع هذا الهجوم “البسيط”.

بن سلمان قلق

في تغريدة له يوم 8 أكتوبر الجاري، بعد ساعات من هجوم جدة، قال حساب “العهد الجديد” على “تويتر”، والذي يصف نفسه بأنه “راصد ومحلل لمظاهر التغيير في العهد الجديد قريب من غرف صناعة القرار”، إن “ابن سلمان الآن في حالة قلق شديد من تعرضه لأي اغتيال، وهو يشكّ بمعظم من حوله، ولا يرى في الوقت الحالي غير ابن زايد سندا له، لذلك هو مسلم له”.

احتمالية أن يكون “منصور العامري” أحد الشباب الذين شعروا سريعا بالإحباط والغضب من السياسات السعودية الرسمية الأخيرة هي احتمالية مزعجة للسلطة هناك على كافة المستويات، فهذا يعني أن هناك حالة غضب بدأت تتحرك ضد السلطة داخل مواطنين عاديين منفتحين مسالمين، ولم تتحرك في المسار الاحتجاجي السلمي، لا سيما أن حكومة المملكة لا تتسامح مع أية تحركات من هذا النوع.

معنى ذلك أن على الأمن السعودي أن يتوقع تكرار تلك العمليات العشوائية الغاضبة من شباب عادي، يركب السيارات الفارهة، يخرج ويذهب ويجيء، منفتح على وسائل التواصل والناس، لكنه يرى أن حكومته سائرة على طريق دول مجاورة تسبب بتدميرها.

احتمالات أخرى

من ناحية أخرى، لم تستبعد السلطات السعودية إمكان أن يكون منفذ الهجوم على قصر جدة الملكي مدفوعا، ليس من تنظيمات جهادية أو راديكالية هذه المرة، ولكن من قيادات قبلية أو عائلات سعودية كبرى أو حتى خصوم لـ “بن سلمان” من داخل الأسرة المالكة، لإرسال رسالة غاضبة شديدة اللهجة من تداعيات استمرار بن سلمان في تهميشه للجميع، واعتداده بنفسه فقط، وبرفيقه “محمد بن زايد”.

ومن المعروف أيضا أنه لا تزال هناك دوائر داخل الحكومة السعودية، لا سيما وزارة الداخلية ترى أن “بن سلمان” غدر بولي نعمتهم “محمد بن نايف”، فالأخير كان قد نجح في تكوين نفوذ حقيقي له داخل الوزارة، اعتمادا على تاريخه وأسلوبه الجيد مع مرؤوسيه.

وبالرغم من عدم إعلان الأجهزة الأمنية حتى الآن التوصل إلى معلومات تشير لتلك الاحتمالية، إلا أن كل الاحتمالات تظل واردة، وحتى الوصول إلى الحقيقة، لن يتوقف قلق بن سلمان.

بعد ساعات من قرار العاهل السعودي بالسماح للمرأة بقيادة السيارات، خرج شاب سعودي رافض على مواقع التواصل مؤكدا أنه سيشن عمليات انتقامية ضد النساء اللاتي يقدن سياراتهن، النائب العام السعودي أمر بالتحري عنه والقبض عليه، والمفاجأة أيضا أنه كان شابا عاديا بلا سجل متطرف أو راديكالي، فقط شاب يرى أن قرار السماح للسيدات بالقيادة هو خرق لأعراف القبائل السعودية.

البدوي والحضري

في مقال له بـ”العربي الجديد” طرق الكاتب البحريني عادل مرزوق نقطة بالغة الأهمية في هذا الإطار، عندما تحدث عن رفض محتمل للنظام القبلي بالمملكة لتوجهات محمد بن سلمان، قائلا إن “إعادة صناعة «البدوي» باعتباره حاملًا مشروع التغيير والتطوير والانفتاح الاجتماعي والديني في البلاد ليست مهمة سهلة أمام ولي العهد الشاب ومستشاريه، بل تبدو هذه المهمة في تفاصيلها مغامرة غير محسوبة العواقب”.

ويضيف مرزوق أن “الحضر”، الذين كانوا في ذهنية ابن القبيلة “البدوي” والدولة السعودية في توقيت ما، الخطر الداهم ومثالا للفسادين القيمي والأخلاقي، هم اليوم الوجه الجديد للدولة المنشودة، والحامل المثالي المفترض لشكل الهوية الجديدة للمواطن السعودي ومضمونها، متسائلا: أين سيختفي أبناء القبائل عن الواجهة؟ وكيف يتموضعون في هذا التغيير؟

الآن، يبدو محمد بن سلمان في مواجهة صعبة مع عدة خصوم، الوهابيين ورجال الدين الذين قاسموا عائلة “آل سعود” السلطة والنفوذ لعقود، ومواطنين غير مسيسين يرون في سياسات ولي العهد تسارعا غير مدروس يضر بالبلاد في منطقة متخمة بالتوترات، وقبائل بدأت تشعر أن قيمها التقليدية تتكسر وأن “بن سلمان” قد يكون منفتحا أكثر من اللازم.

الخطوة المستقبلية المتوقعة لولي العهد السعودي العنيد، رغم قلقه، هي تكريس تقاربه مع الإمارات، التي يرى فيها نموذجا حاميا ومتصلا بشكل جيد مع القوى العالمية، فلا يزال “بن سلمان” يؤمن أن الطريق للأمان يمر عبر دبي وأبو ظبي.