في مشهد مأساوي يعيد إلى الأذهان أبشع فصول الحرب في دارفور، أعلنت منظمة الهجرة الدولية عن نزوح ما يزيد عن 15 ألف أسرة من بلدة المالحة، الواقعة في ولاية شمال دارفور، خلال 48 ساعة فقط، بسبب اشتباكات شرسة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. 

وقد أكدت المنظمة الأممية أن النازحين توجهوا إلى مناطق مجاورة ضمن الولاية نفسها، وسط حالة من التوتر والانعدام الكامل للأمان.

المالحة، البلدة الحدودية القريبة من ليبيا والتي تبعد نحو 200 كيلومتر عن مدينة الفاشر، ليست مجرد بلدة عادية، بل نقطة استراتيجية على تقاطع طرق الإمداد بين الصحراء الكبرى وشمال السودان، مما يجعلها هدفًا بالغ الأهمية في الصراع الدامي الدائر منذ أبريل 2023. 

السيطرة عليها لا تعني فقط انتصارًا ميدانيًا، بل تفوقًا لوجستيًا وموقعًا متقدمًا نحو الحدود يمكن استخدامه للتموين العسكري أو الهروب والتهريب.

قصف دموي وتضارب بيانات: من يسيطر على المالحة؟

صباح الجمعة، أعلنت شبكة أطباء السودان مقتل 48 مدنيًا وإصابة 63 آخرين، في هجوم شنته قوات الدعم السريع على البلدة. 

هذا الهجوم لم يكن مفاجئًا، بل جاء ضمن سلسلة من العمليات العنيفة التي تقوم بها هذه الميليشيا المدعومة خارجيًا، والتي تتبع سياسة “الأرض المحروقة”، خاصة في المناطق التي تقاوم سيطرتها.

وكانت قوات “الدعم السريع” قد أعلنت يوم الخميس أنها سيطرت على المالحة، قبل أن تعود القوات المشتركة للحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش السوداني وتؤكد صد الهجوم واستعادة البلدة.

هذا التناوب في السيطرة يعكس حالة الجمود العسكري والتكلفة الإنسانية المرتفعة التي يدفعها المدنيون في دارفور.

انحسار نفوذ الدعم السريع… لكن بكلفة بشرية باهظة

في الأسابيع الأخيرة، تشهد مناطق واسعة في السودان تغيرًا في خارطة السيطرة الميدانية، إذ بدأ نفوذ قوات الدعم السريع يتراجع لصالح الجيش في ولايات مهمة مثل الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، شمال كردفان، سنار، والنيل الأزرق.

لكن هذا التراجع لا يعني نهاية الحرب، بل انتقالها إلى مناطق أكثر هشاشة، كما هو الحال في دارفور، التي تعاني أصلًا من إرث طويل من النزاعات العرقية والإقصاء التنموي.

المالحة تمثل آخر حلقات النزيف الإنساني في الحرب السودانية، والتي أسفرت حتى الآن – حسب الأمم المتحدة – عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص، فيما تشير دراسات أميركية إلى احتمال بلوغ العدد 130 ألف قتيل. 

كما تسبب النزاع في نزوح ولجوء حوالي 15 مليون إنسان، ما يمثل أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم.

الدور الإماراتي: وقود لحرب إبادة

رغم كل هذه المآسي، لم تنجح المساعي الدولية في وقف الحرب، بل إن بعض الدول تلعب دورًا محوريًا في تأجيجها، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة. 

تقارير حقوقية واستخباراتية عديدة، بينها ما نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية ومركز الأبحاث Sentry، أكدت أن أبوظبي تقدم دعمًا عسكريًا ولوجستيًا لقوات الدعم السريع، يشمل شحنات أسلحة وذخائر تُرسل عبر ليبيا وتشاد.

الدعم الإماراتي لا يقف عند حدود التسليح، بل يمتد إلى الدعم المالي والسياسي، إذ تسعى الإمارات إلى فرض أمر واقع يُبقي حلفاءها – أمثال حميدتي – في مراكز القوة. 

هذا الدعم يُفسّر إلى حد كبير وحشية هجمات الدعم السريع في دارفور، والتي تتخذ طابعًا عرقيًا مروعًا، بما يشبه سياسة الإبادة الجماعية التي شهدها الإقليم في أوائل العقد الأول من الألفية.

صمت دولي ومأساة مفتوحة

بينما يستمر النزيف في المالحة وسائر دارفور، يبدو أن المجتمع الدولي اختار الصمت، سواء بسبب التباين في المصالح أو العجز عن احتواء النفوذ الإقليمي المدمر.

الإمارات، التي ترفع شعارات “الاستقرار الإقليمي” وتدّعي دعم “السلام”، تلعب دورًا خفيًا في دعم مجرمي الحرب، وتستثمر في فوضى السودان لتمرير أجنداتها الاستراتيجية والاقتصادية في أفريقيا.

في الوقت الذي يفرّ فيه المدنيون من بلدتهم دون طعام أو مأوى، تظل الأسئلة معلقة: من سيوقف آلة الحرب؟ من يحاسب من يدعمها؟ وهل سيسمح العالم بإعادة سيناريو الإبادة الجماعية في دارفور 2025 كما حدث في 2003؟

اقرأ أيضًا : ترامب بين الإذلال والتحكم: كيف دفع الإمارات والسعودية لتقديم الولاء المالي