وسط أجواء تفاوضية مشحونة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، برزت تسريبات إعلامية عبرية كشفت عن نقاط خلاف رئيسية تهدد التوصل إلى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وبينما أبدت المقاومة استعدادها المبدئي للتعاطي مع مبادرة الوسطاء، لا تزال حكومة الاحتلال تراوغ، متذرعة بـ”ملاحظات” تتعلق بانسحاب الجيش وتدفق المساعدات والضمانات الأمريكية.
لكن هذه الاعتراضات، رغم ما تحمله من طابع تقني، تعكس في جوهرها أزمة داخلية في المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، التي تخشى الاعتراف بانتصار سياسي ومعنوي للمقاومة.
انسحاب الجيش.. عقدة مركبات جدعون
النقطة الأولى من الخلاف تدور حول انسحاب جيش الاحتلال من نقاط مركزية داخل القطاع، وهو مطلب جوهري للمقاومة يتكرر في كل جولة تفاوضية. وبحسب المحلل العسكري الإسرائيلي نوآم أمير، فإن الموافقة على هذا البند تعني “تقويض كل إنجازات عملية مركبات جدعون”، وهي التسمية الإسرائيلية للحرب الجارية منذ أشهر على غزة. بعبارة أوضح، فإن المؤسسة العسكرية ترى في استمرار التمركز داخل القطاع رمزية “النصر العسكري”، والتراجع عنها بمثابة اعتراف بالهزيمة أمام مقاومة لم تنكسر رغم المجازر والدمار.
هذا الموقف يعكس خشية جيش الاحتلال من أن تؤدي العودة إلى خطوط ما قبل الحرب إلى تعزيز صورة المقاومة في الوعي الفلسطيني والعربي والدولي، ونسف الرواية الإسرائيلية التي تسعى لتقديم الحرب بوصفها حملة ناجحة ضد “الإرهاب”. كما أن الانسحاب في ظل استمرار بقاء الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة سيشكّل ضربة قاصمة لصورة الجيش التي اهتزت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
المساعدات الإنسانية.. إسرائيل تخشى عودة “الحوكمة الحمساوية”
أما البند الثاني الذي يثير اعتراضًا داخل حكومة الاحتلال، فيتعلق بتغيير آلية إيصال المساعدات الإنسانية. وبحسب نوآم أمير، فإن القبول بهذا البند “يعني استعادة حماس السيطرة على القطاع”، وهو ما يعتبره تهديدًا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، خاصة مع تزايد وجود شركات أمريكية تعمل في إعادة الإعمار والأمن اللوجستي داخل القطاع.
هذا الموقف يكشف حقيقة أن الخلاف الإسرائيلي لا يدور فقط حول الأمن أو المساعدات، بل حول “من يحكم غزة” بعد الحرب. وتخشى تل أبيب أن يؤدي تدفق المساعدات بشكل مباشر إلى المؤسسات المحلية أو الدولية المتعاونة مع فصائل المقاومة، إلى تعزيز شرعية حماس وإعادة ترسيخ مؤسساتها التي صمدت رغم الدمار. وفي المقابل، تسعى حكومة الاحتلال لفرض آلية مساعدات تخضع لرقابة مشددة وتدار عبر أطراف تعتبرها “محايدة” لكنها عمليًا موالية للخطاب الإسرائيلي الأمريكي.
الضمانات الأمريكية.. فوبيا المرحلة الثانية
البند الثالث يتمحور حول مطلب المقاومة بالحصول على ضمانات أمريكية لاستمرار المفاوضات نحو وقف إطلاق نار دائم، وعدم استئناف الاحتلال للعدوان بمجرد انتهاء الهدنة. ورغم أن هذا مطلب منطقي من طرف عانى من خروقات إسرائيلية متكررة في اتفاقات سابقة، إلا أن الرد الإسرائيلي جاء عبر التخوف من أن يؤدي القبول بهذا الشرط إلى “ضغوط يمارسها ترامب لاحقًا للانتقال إلى المرحلة الثانية التي تنهي الحرب”، بحسب نوآم أمير.
هنا يظهر القلق الإسرائيلي من فقدان هامش المناورة، إذ تسعى حكومة نتنياهو للاحتفاظ بالقدرة على خرق الهدنة متى شاءت، دون أن ترتبط باتفاق طويل الأمد أو التزامات أميركية صارمة. هذا التردد يكشف أن الاحتلال لا يريد حلاً سياسياً حقيقياً، بل هدنة مؤقتة يلتقط فيها أنفاسه ويعيد ترتيب قواته، دون أن يتحمل تبعات انسحاب كامل أو تفاهمات دولية مُلزمة.
موقف المقاومة.. مرونة تكتيكية وثبات استراتيجي
في المقابل، أظهرت المقاومة الفلسطينية موقفًا مرنًا في الشكل، صلبًا في الجوهر. فقد أعلنت عن تسليم ردها على مقترح الوسطاء “بروح إيجابية”، وأبدت استعدادًا فوريًا للدخول في مفاوضات لتنفيذ الاتفاق. لكن هذا “القبول” جاء مشروطًا بعدة نقاط مركزية، أهمها: انسحاب الاحتلال خلال الهدنة، تدفق المساعدات دون عوائق، وضمان استمرار مسار التفاوض حتى وقف دائم لإطلاق النار.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن التعديلات التي أدخلتها المقاومة على المبادرة لا تمس جوهر الاتفاق، بل تتعلق ببروتوكولات الإغاثة، وقد تم استلهامها من تجارب هدنة سابقة جرى فيها تنفيذ آليات محددة نجحت نسبيًا. ويبدو أن المقاومة تدرك جيدًا أن المعركة لم تعد ميدانية فقط، بل سياسية ودبلوماسية، وأن الصمود السياسي لا يقل أهمية عن الصمود العسكري.
ختام: الاحتلال في الزاوية رغم الغطرسة
المفارقة أن الاحتلال، رغم تفوقه العسكري والتغطية الدولية التي يحظى بها، يجد نفسه محاصرًا سياسيًا وأخلاقيًا. فالمقاومة لم تنهزم، والمجتمع الدولي بدأ يستيقظ على حجم المجازر والجرائم، والولايات المتحدة – ولو بخجل – تحاول كبح التصعيد المتواصل. وفي الداخل الإسرائيلي، لا تزال حكومة نتنياهو تعاني من الانقسام بين مَن يريد “إنهاء الحرب بأي ثمن” ومَن يراهن على استمرارها لتحقيق مكاسب سياسية أو أيديولوجية.
وفي ظل هذا المشهد، لا يبدو أن “ملاحظات إسرائيل” على الاتفاق سوى محاولات لتأجيل الهزيمة أو تجميلها، بينما تتقدم المقاومة بثبات على درب التحرر، رافعة سقف التفاوض من منطق القوة لا من موقع الاستجداء.
اقرأ أيضًا : تل أبيب تحت الاختراق.. إيران تشعل جبهة التجسس داخل إسرائيل
اضف تعليقا