في سابقة تعكس عمق الانقسام السياسي والمجتمعي داخل إسرائيل، فجّر مقتل اثنين من موظفي سفارة الاحتلال الإسرائيلي في واشنطن موجة من التراشق والاتهامات بين قادة الصف الأول في الحكومة والمعارضة.
وبينما تصاعدت الدعوات إلى محاسبة من “شوّه صورة إسرائيل” على حد وصف وزراء في حكومة نتنياهو، تحوّل الحادث إلى مرآة تكشف عمق الأزمة الداخلية التي يعيشها الكيان الصهيوني بعد أكثر من سبعة أشهر من حرب إبادة وحشية على قطاع غزة، أدّت إلى عزلة متزايدة عالمياً، واحتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي ذاته.
أصابع الاتهام تتقاذف: الحكومة تتهم غولان والمعارضة ترد
فور الإعلان عن مقتل موظفَين في السفارة الإسرائيلية قرب المتحف اليهودي في واشنطن، بادرت شخصيات من حكومة بنيامين نتنياهو إلى تحميل “التحريض الداخلي” مسؤولية ما جرى، موجهةً سهامها نحو يائير غولان، رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي، وعدد من السياسيين المعارضين الذين طالبوا بوقف العدوان على غزة.
وزير الخارجية جدعون ساعر قال إن “التحريض المعادي للسامية يتغذى من الداخل والخارج”، معتبراً أن إسرائيل “تدفع ثمناً دموياً لما يُبثّ من أكاذيب واتهامات ضدها”.
من جهته، اتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، المعروف بتطرفه، خصومه السياسيين بأنهم “يغذون الكراهية العالمية تجاه إسرائيل، مما يشجع معاداة السامية”، في إشارة مباشرة إلى غولان ووزير الدفاع الأسبق موشيه يعالون.
لكن غولان ردّ بعنف، قائلاً إن حكومة نتنياهو هي من تتحمّل المسؤولية عن الدماء في واشنطن، مضيفاً: “من يقتل الأطفال في غزة ويدمر مدنهم، عليه أن يتوقع نتائج كارثية على صورة إسرائيل في العالم. هذه الحكومة تغذي العداء لليهود بخطابها المتعجرف وأفعالها غير الأخلاقية”.
هذا الانقسام الداخلي، في ذروة مأساة دبلوماسية، يعكس حجم التوتر داخل المؤسسة الحاكمة، وحالة التآكل التي أصابت ما يسمى بـ”الإجماع الصهيوني”.
مجزرة غزة في قلب الاتهامات: قتل المدنيين ارتدّ على إسرائيل
تصريحات غولان ويعالون حول المجازر الإسرائيلية في غزة كانت بمثابة صرخة سياسية ضد الانزلاق المستمر في وحل الفاشية والتطرف القومي داخل حكومة نتنياهو.
وصف غولان لحرب غزة بأنها “هواية لقتل الأطفال”، قابله رد غاضب من وزير الثقافة ميكي زوهر الذي وصفه بـ”السياسي الدنيء”، واعتبر أن هذا الخطاب هو “وقود لمعاداة السامية”.
لكن في الواقع، لم يأتِ هذا الهجوم في واشنطن من فراغ. فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، قُتل أكثر من 35 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وسط استخدام مفرط للقوة، وحصار شامل تسبب في مجاعة ونزوح جماعي.
هذه الجرائم، التي توثّقها الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، خلقت موجة غضب عالمي غير مسبوقة ضد الاحتلال، لم تقتصر على الشعوب بل امتدت إلى الجامعات، والمؤسسات، وحتى بعض الحكومات الغربية.
الحادث الذي وقع في قلب العاصمة الأمريكية، وبالقرب من متحف يهودي، لم يكن مجرد “هجوم إرهابي” كما وصفه بعض المسؤولين الإسرائيليين، بل يأتي كنتيجة مباشرة لتضخم صورة الاحتلال ككيان دموي لا يتردد في قتل الأطفال وتجويع الشعوب.
الهجوم يهز صورة إسرائيل ويعمّق الانقسام الداخلي
بعيداً عن الاتهامات المتبادلة، جاء هذا العمل البطولي – كما وصفته بعض المنصات المقاومة – ليفضح هشاشة إسرائيل على الساحة الدولية، ويكشف أن الدبلوماسيين الذين يروجون لسياسات الاحتلال، لم يعودوا بمنأى عن ارتدادات جرائم حكومتهم.
الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ دعا إلى “الوحدة” ووقف “المعارك البينية”، في محاولة بائسة لرأب الصدع، بينما كان رئيس الوزراء نتنياهو يؤكد أنه “سيعزز أمن السفارات”، دون أي مراجعة لسلوك حكومته.
لكن الرسالة كانت قد وصلت: إسرائيل فقدت قدرتها على الظهور كضحية في ظل الكم الهائل من الجرائم الموثقة، والشارع العالمي بات يرى فيها دولة استعمارية تنتهج الإبادة كسياسة رسمية.
وزير المالية بتسلئيل سموتريتش حاول ربط الجريمة بـ”الانتفاضة العالمية ضد إسرائيل”، قائلاً إن ما حدث هو امتداد لمذبحة نير عوز، أي عملية طوفان الأقصى، التي كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الصراع.
أما زعيم المعارضة يائير لبيد، فذهب بعيداً بوصف الهجوم بـ”عولمة الانتفاضة”، في إشارة إلى أن الغضب الفلسطيني لم يعد محصوراً داخل الأراضي المحتلة.
هذه التوصيفات، وإن بدت في ظاهرها محاولات لإعادة إنتاج خطاب “الضحية”، إلا أنها تعكس قلقاً عميقاً داخل المؤسسة الإسرائيلية من فقدان السيطرة على الرأي العام العالمي، وفشل سياسات الردع العسكري، وظهور تصدعات في جبهة الداخل.
صدى الدم يرتد على القتلة
حادثة واشنطن لم تكن مفاجئة في سياق عالم يغلي بسبب ما يحدث في غزة. فمن يدعم القتل الجماعي وتهجير الشعوب، لا يمكن أن ينجو من عواقب ذلك. إسرائيل اليوم تواجه غضباً متصاعداً في الخارج، وتمزقاً داخلياً غير مسبوق.
ومع كل جريمة ترتكبها في رفح أو جباليا، يتكشّف للعالم أن هذا الكيان يقف عارياً أمام العدالة، وأن من يروّج لسياساته الاستعمارية حول العالم لن يظل بمنأى عن الغضب الشعبي.
وفي وقت يتساقط فيه قناع “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، تبدو دماء موظفي السفارة في واشنطن كرسالة مدوّية: من زرع الدم، سيحصده.
اقرأ أيضًا : كامبريدج تسحب استثماراتها من الاحتلال وصناعة السلاح.. حين تقاطع الجامعات ويتواطأ الحكام
اضف تعليقا