برزت مشاهد هدم ونسف وتدمير المنازل الفلسطينية بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة، لا سيما في قطاع غزة الذي تعرض لحرب إبادة إسرائيلية وجرائم وحشية استمرت على مدار 15 شهرًا، إلى جانب مناطق شمال الضفة الغربية التي تشهد هذه الأيام عدوانًا واسعًا يستهدف البنية التحتية والسكان المدنيين.

وأفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في تقريره الأولي بأن الخسائر المباشرة جراء العدوان الإسرائيلي تجاوزت الـ50 مليار دولار في مختلف القطاعات، مشيرًا إلى تدمير 450 ألف وحدة سكنية، منها 170 وحدة هدمت كليًا، و80 ألف وحدة دُمرت بشكل بالغ، و200 ألف وحدة تضررت جزئيًا.

عمليات الهدم هذه ليست مجرد إجراء عسكري عابر، بل هي جزء من سياسة ممنهجة تتبعها سلطات الاحتلال منذ عقود، بهدف فرض وقائع جديدة على الأرض، وإجبار الفلسطينيين على ترك منازلهم وأراضيهم تحت وطأة الدمار المستمر.

أداة عقابية ممتدة منذ عقود

منذ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1948، أصبح هدم المنازل وسيلة رئيسية في سياسة العقاب الجماعي التي يمارسها الاحتلال. لم يكن هذا الأسلوب جديدًا على المشهد الفلسطيني، إذ يعود تاريخ استخدامه إلى عهد الانتداب البريطاني، حيث قام الجيش البريطاني بين عامي 1936 و1939 بهدم منازل القرى الفلسطينية المشاركة في الثورة، بل وصل الأمر إلى تدمير قرى بأكملها.

وفي عام 1945، أصدرت سلطات الانتداب لوائح الدفاع (الطوارئ) التي تضمنت المادة 119، التي تمنح القائد العسكري المحلي صلاحيات واسعة في تدمير الممتلكات دون الحاجة إلى الاستئناف. وعقب احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، تجاهلت إسرائيل التحذيرات القانونية من مستشاريها، واستمرت في استخدام سياسة الهدم كوسيلة للعقاب الجماعي.

خلال الانتفاضة الثانية، تصاعدت عمليات الهدم بشكل كبير، حيث لجأت سلطات الاحتلال إلى هدم منازل منفذي العمليات الفدائية، مبررة ذلك بأنه وسيلة ردع للمقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، ورغم إصدار أوامر رسمية عام 2005 بوقف الهدم لأغراض العقاب، استمرت هذه السياسة تحت ذرائع أخرى مثل «عدم الترخيص» أو «الضرورات العسكرية».

وسائل التدمير: جرافات ومدرعات ومتفجرات

لا تعتمد سلطات الاحتلال على وسيلة واحدة في عمليات هدم المنازل، بل تستخدم عدة طرق تختلف حسب طبيعة المباني والمناطق المستهدفة.

  • الجرافات العسكرية: تستخدم الجرافات المدرعة من نوع “D9” في عمليات الهدم واسعة النطاق، خاصة عندما يكون هناك خطر متوقع من عمليات الهدم، كما حدث في مخيم جنين وحي الشيخ جراح بالقدس.
  • الحفارات وجرافات العجلة: تستخدم هذه المعدات لهدم المباني متعددة الطوابق أو المنازل الصغيرة التي لا تشكل تهديدًا عسكريًا كبيرًا.
  • التفجيرات: تعتبر من أكثر الوسائل انتشارًا في الآونة الأخيرة، حيث يتم زرع المتفجرات في منزل أو عدة منازل وتفجيرها دفعة واحدة. أبرز مثال على ذلك ما حدث في جنين مؤخرًا عندما فجر الاحتلال 23 منزلًا بشكل متزامن.
  • هدم المربعات السكنية: خلال العدوان الأخير على غزة، استخدم الاحتلال طريقة تفجير مربعات سكنية كاملة، كما حدث شمال القطاع وفي مدينة رفح، ما أدى إلى تدمير آلاف المنازل وتشريد عشرات الآلاف من المدنيين.

هدم المنازل في القانون الدولي: جريمة حرب واضحة

رغم كل التبريرات التي تقدمها إسرائيل، فإن القانون الدولي واضح في موقفه تجاه عمليات هدم المنازل. تحظر اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تحمي المدنيين في زمن الحرب، عمليات التدمير غير المبررة للممتلكات. وتنص المادة 53 من الاتفاقية على أن “أي تدمير من جانب دولة الاحتلال لممتلكات عقارية أو شخصية مملوكة فرديًا أو جماعيًا لأشخاص عاديين … محظور، إلا إذا كانت العمليات العسكرية تقتضي حتمًا هذا التدمير”.

هدم المنازل، كجزء من العقاب الجماعي، يُصنف على أنه جريمة حرب وفق القانون الدولي. فالقوانين الدولية تحظر معاقبة السكان بسبب أفعال لم يرتكبوها، وهو ما تقوم به إسرائيل بشكل ممنهج ضد الفلسطينيين. حتى في إطار قوانين الاحتلال نفسه، فإن هدم المنازل يعتبر ممارسة غير قانونية إلا لأسباب الضرورة العسكرية القصوى، وهو شرط لا ينطبق على الغالبية العظمى من حالات الهدم.

ومع ذلك، فإن إسرائيل، رغم كونها طرفًا في اتفاقية جنيف الرابعة، تدعي أن هذه الأحكام لا تنطبق على الأراضي الفلسطينية لأنها ليست “دولة ذات سيادة”. هذا الموقف رفضته جميع المنظمات الحقوقية الدولية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، التي أكدت أن قوانين حقوق الإنسان تنطبق على جميع الأراضي التي تخضع لسيطرة فعلية، بغض النظر عن وضعها القانوني.

الأهداف الحقيقية وراء سياسة الهدم

تسعى إسرائيل من خلال عمليات الهدم إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، أبرزها:

  1. العقاب الجماعي: تستخدم عمليات الهدم لمعاقبة عائلات منفذي العمليات الفدائية، رغم أن هذا يشكل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي.
  2. إفراغ الأرض من سكانها: تهدف سياسة هدم المنازل إلى إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، إما خوفًا من الهدم أو بسبب انعدام الظروف المعيشية بعد فقدان منازلهم.
  3. توسيع المستوطنات: كثير من عمليات الهدم تتم في المناطق المستهدفة بالاستيطان، مثل القدس المحتلة ومناطق “ج” في الضفة الغربية، وذلك لإفساح المجال أمام التوسع الاستيطاني.
  4. فرض وقائع جديدة على الأرض: تسعى إسرائيل من خلال التدمير الممنهج إلى تقليل فرص إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، عبر تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية.

الخلاصة أنه رغم مرور عقود على استخدام سياسة هدم المنازل، ورغم تدمير عشرات الآلاف من المنازل الفلسطينية، إلا أن هذه السياسة فشلت في كسر إرادة الفلسطينيين أو دفعهم للاستسلام. بل على العكس، كل موجة جديدة من الهدم تقابلها موجة جديدة من المقاومة والصمود.

يبقى هدم المنازل أحد أبرز الجرائم الإسرائيلية التي تتطلب محاسبة دولية، وهو ملف يجب أن يكون حاضرًا في جميع المحافل الحقوقية، لمنع استمرار هذه الجريمة ضد الإنسانية،

ووضع حد لسياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

اقرأ أيضًا : جرائم إسرائيل في فلسطين.. متى يدرك اليهود خطورة ما يُرتكب باسمهم؟