باسم الشجاعي

في نهاية شهر فبراير الماضي، أكد قائد الانقلاب المصري الجنرال “عبد الفتاح السيسي” أن بلاده أحرزت هدفا في اتفاقية استيراد الغاز الموقعة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقال باللهجة العامية وقتها :”احنا جبنا جول ..جبنا جول يا مصريين في الموضوع ده”.

الغريب في الأمر أن الجانب الإسرائيلي رحب بالاتفاقية التي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار؛ ووصف رئيس وزراء دولة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” يوم توقيعها بأنه “يوم عيد”.

وبعيدا عن إشادة “السيسي” و” نتنياهو”، ظلت الاتفاقية تشكل جدلا في الأوساط المصرية بشأن جدوى استيراد الغاز من “إسرائيل” في الوقت الذي بدأت فيه مصر الإنتاج بالفعل من حقلها البحري “ظُهر” الذي يعد أكبر حقل غاز في البحر المتوسط وأحد أكبر اكتشافات الغاز العالمية في السنوات الأخيرة.

لينكشف بعد ذلك أن “الجول” الذي تحدث قائد الانقلاب المصري كان لصالح شركات خاصة تابعه لجهاز المخابرات العامة المصرية، ولصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس مصر أو المصريين

نصف الحقيقة

المثير للدهشة أنه منذ الإعلان عن صفقة استيراد الغاز من دولة الاحتلال الإسرائيلي وتفرض مصر سياجا من السرية على الأمر بالرغم من أنه حسبما أعلن وقتها أنها تتبع القطاع الخاص وليس الحكومة.

واكتفت وزارة البترول بإصدار بيان مقتضب –آنذاك- قالت فيه: “ليس لدينا أي تعليق بشأن مفاوضات أو اتفاقيات تخص شركات القطاع الخاص بشأن استيراد أو بيع الغاز الطبيعي إلى إسرائيل”.

ومع مرور الوقت كشفت تحقيقات صحفية النقاب عن جانب من تفاصيل الصفقة، التي أظهرت أنها ليست مقتصرة على القطاع الخاص أو خارج الإطار الحكومي.

وتشير المستندات التي تحدث عنها موقع “مدى مصر”، إلى أن شركة غاز الشرق -الرابح الأكبر من استيراد غاز “إسرائيل” وإعادة بيعه للدولة المصرية وهي بالفعل شركة خاصة، ولكن غالبية أسهمها مملوكة لجهاز المخابرات العامة المصرية، الذي يحصل على 80% من أرباحها لحسابه.

ذراع المخابرات التجاري

وتعتبر شركة “غاز الشرق” -بدأت نشاطها منذ عام 2006-، أحد الشركات أو الوجهات التي تلعب من خلفها المخابرات العامة المصرية في عملية استيراد الغاز من “إسرائيل”.

والرئيس التنفيذي للشركة هو “محمد شعيب” الذي تم تعيينه بمجلس إدارتها ممثلًا عن جهاز المخابرات، ودائما ما يكون رئيس مجلس إدارة الشركة وكيل أو نائب رئيس جهاز المخابرات العامة.

وعن نشأة الشركة، قال رجل الأعمال -الهارب وقتها- “حسين سالم” في منفاه الاختياري في إسبانيا (قبل أن تعلن الحكومة المصرية في 2016 التصالح معه وإسقاط كافة الأحكام الصادرة بحقه مقابل رده مبلغ خمسة مليارات ونصف المليار دولار تقريبًا)، في مقابلة نشرتها صحيفة “المصري اليوم”، في أبريل 2015: ” لقد كلفني جهاز المخابرات المصرية بتأسيسي شركة الشرق للغاز لتصدير الغاز إلى الأردن، كما تم تكليفي بتأسيس شركة البحر الأبيض المتوسط للغاز لتصدير الغاز إلى إسرائيل”.

وكانت شركة “غاز الشرق” -الشركة الوسيطة الناقلة- للغاز المصري إلى الأردن قبل ثورة 25 يناير 2011، وأنها “كانت تحصل على نصف قيمة التعاقد مع الأردن” والبالغ قدره مليارًا وثمانمائة مليون دولار.

ومؤخرا تولى رئاسة مجلس إدارة الشركة عند تسجيلها في السجل التجاري المصري عام 2013 الفريق “عبد الوهاب سيد أحمد”، نائب رئيس المخابرات العامة منذ عهد رئيس الجهاز اللواء “عمر سليمان”.

وفي 2016 أصبح رئيس مجلس الإدارة هو اللواء “طارق سلام”، نائب رئيس الجهاز في عهد رئيسه السابق “خالد فوزي”.

وبعد خروج سلام من الجهاز وتعيينه في العام الماضي سفيرًا لمصر لدى أوغندا، حل محله الرئيس الحالي لمجلس الإدارة، اللواء “إبراهيم عبد السلام”.

وبحسب نسخة السجل التجاري الصادرة بتاريخ 3 أكتوبر الجاري، فإن “عبد السلام” كان لا يزال رئيسًا للشركة حتى وقت انعقاد آخر اجتماعات مجلس الإدارة في أغسطس الماضي.

بديل “حسين سالم”

عندما قررت مصر مؤخرًا استيراد الغاز الإسرائيلي ظهرت الحاجة إلى رجل أعمال مصري ليلعب الدور الذي سبق وأن لعبه “حسين سالم” في عصر الرئيس المخلوع “محمد حسني مبارك”.

وهنا وقع الاختيار على “علاء عرفة”، رئيس شركة عرفة القابضة التي ورثها عن والده اللواء “أحمد عرفة”، الطيار العسكري السابق والصديق المقرب أيضًا لـ”مبارك”.

كان “عرفة” اختيارًا منطقيًا بالنظر إلى خبرته الطويلة في التعامل التجاري مع “إسرائيل” في مجال المنسوجات ضمن اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة “الكويز” الموقعة بين مصر وتل أبيب والولايات المتحدة في 2004، والتي تسمح للمنتجات المصرية بالدخول إلى الأسواق الأمريكية دون جمارك أو حصص محددة بشرط دخول نسبة من المكون الإسرائيلي في تصنيعها.

وكان “عرفة” يملك بالفعل شركة واجهة خارج مصر تحمل اسم “دولفينوس القابضة”، قام بتسجيلها في الجزر العذراء البريطانية، إحدى الوجهات المفضلة للباحثين عن ملاذ ضريبي لتمرير أعمالهم من خلال شركات ورقية دون دفع ضرائب.

وبدأت الخطوة الأولى بين المخابرات العامة المصرية و”عرفة”، بإحياء نشاط “دولفينوس” واستعمالها كواجهة مصرية لاستيراد الغاز من “إسرائيل”.

وفي ديسمبر 2015 منحت وزارة الطاقة الإسرائيلية مالكي حقلي ليفاياثان وتمار الإسرائيليين التصريح ببيع الغاز المستخرج منهما لحساب دولفينوس.

ولأن “عرفة” لم يمتلك خبرة تُذكر في مجال الغاز الطبيعي، تقرر ضم عضو ثان إلى الفريق هو المهندس “خالد أبو بكر”، رئيس لجنة الطاقة في غرفة التجارة الأمريكية بالقاهرة، والرئيس التنفيذي لشركة “طاقة عربية” التابعة لمجموعة القلعة القابضة.

ودخل “أبو بكر” على الصفقة من خلال إقدام “دولفينوس” القابضة على إنشاء شركة تابعة في لوكسمبورج حملت اسم “بلو أوشين Blue Ocean”.

وتظهر الأوراق الرسمية أن الشركة مملوكة بالكامل لـ”دولفينوس” القابضة، وتحمل الأوراق توقيع ثلاثة مديرين: “علاء عرفة، وخالد أبو بكر، ومحمد طلعت خليفة” عضو مجلس الإدارة والمدير المسؤول عن الاستثمار في شركة عرفة.

ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الأهم وهي التحرير الكامل لقطاع الغاز الطبيعي المصري ليتمكن القطاع الخاص لأول مرة من استيراد وبيع الغاز الطبيعي في مصر.

وقدمت الحكومة مشروع قانون لتحرير التجارة في الغاز، وافق عليه مجلس النواب دون تعديل يذكر في يوليو 2017، وصدر بتصديق قائد الانقلاب “عبد الفتاح السيسي” بعدها بشهر واحد.

ليصبح الطريق بذلك ممهداً لتشتري “دولفينوس” الغاز من “إسرائيل” ثم تبيعه لمصر.

النظام المصري الجديد لم يترك الصفقة في يد “علاء عرفة وخالد أبو بكر” وحدهما، ولا ليسمح لهما بجني ثروة طائلة من وراء الاتفاق على غرار” حسين سالم”.

وهنا ظهر دور “محمد شعيب”، الرئيس السابق للشركة القابضة للغازات الطبيعية والرئيس التنفيذي الحالي لشركة “غاز الشرق” المصرية التي يملك جهاز المخابرات العامة غالبية أسهمها.

وفي مايو 2018، بعد ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق شراء الغاز الإسرائيلي، دخلت غاز الشرق (المخابرات العامة) في شراكة مع بلو أوشين -لوكسمبورج (عرفة وأبو بكر)، وأنشأ الطرفان شركة جديدة باسم “إنيرجي سولوشنز”

وقع الاختيار هذه المرة على سويسرا لتكون مقرًا للشركة؛ حيث إن الشركة الجديدة تحتاج أيضًا لإعفاء من ضرائب النشاط التجاري، كشراء وبيع الغاز مثلًا، وليس أفضل في ذلك من سويسرا.

“جون السيسي”

إشادة “السيسي” بصفقة استيراد الغاز لم تكن في محلها على الإطلاق، فوفقا لتقرير من إعداد بنك الاستثمار “سي آي كابيتال”، الذي صدر في 31 يوليو الماضي ويحمل عنوان “مستقبل الغاز الطبيعي في مصر: تطورات القطاع تعيد التأكيد على حدوث عجز على المدى الطويل”، فإن القيمة التقديرية للاتفاق وهي 15 مليار دولار، مقابل 64 مليار متر مكعب ستترجم إلى سعر 6.5 دولار لكل وحدة حرارية وستباع للمستهلك النهائي بسعر “يتراوح بين سبعة ونصف أو ثمانية دولار للوحدة الحرارية”، مقارنة بتكلفة إنتاج الغاز المحلي في مصر (بين 1.75 دولار و3.5 دولار للوحدة الحرارية بعد اقتسام النفقات مع الشركاء الأجانب)، أو بسعر بيع الغاز في أوروبا (5.8 دولارًا للوحدة الحرارية).

ويتوقع تقرير “سي آي كابيتال” أن ذلك الاكتفاء الذاتي في مصر للغاز المصري لن يستمر لأكثر من عام أو اثنين قبل أن تعود القاهرة للاستيراد من جديد (وهو نفس السيناريو الذي شهدته مصر من قبل حين أعلنت الاكتفاء الذاتي لفترة محدودة عام 2004 قبل أن تعود لاستيراد الغاز بشراهة).

أمر آخر دفع مصر لاستيراد الغاز من “إسرائيل”، بحسب  بيان صادر عن وزارة البترول المصرية فبراير الماضي، التي قالت فيه إن “استيراد الغاز الإسرائيلي وإعادة تصديره، يمثل أحد الحلول لقضايا التحكيم الدولي المطروحة بين الشركات”.

وفي ديسمبر 2015، قضت محكمة غرفة التجارة الدولية في جنيف بتغريم الحكومة المصرية مبلغ 1.7 مليار دولار، لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، بعد توقف إمدادات الغاز المصري إلى تل أبيب، ولكن بالأرقام المشار إليه أعلاه فإن مصر وخاصة المستهلك المصري هو من يتحمل الفارق وليس الدولة.