بقلم محمود المنصورى
مرةً أخرى، تثبت الأنظمة العربية أن فلسطين ليست من أولوياتها، بل مجرد ورقةٍ للمزايدة والمماطلة، فقد أعلنت الخارجية المصرية تأجيل القمة العربية الطارئة، التي كان من المقرر انعقادها في 27 فبراير/شباط، إلى 4 مارس/آذار 2025، في خطوةٍ تعكس التخاذل والتواطؤ، لا سيما وأنه لم يكن من المفترض أن تُعقد القمة بعد شهورٍ من الإبادة الجماعية والجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال في غزة، بل كان ينبغي لها أن تظل منعقدة دون توقف حتى تأتي هذه الأنظمة بحل جذري يضع حد لهذه المخططات الاستعمارية.
فما الذي ينتظره الحكام العرب؟ هل لم يصلهم بعد أن الاحتلال الإسرائيلي لا ولن يتوقف عن القتل، وأن الدم الفلسطيني لا يزال ينزف؟ ما الحدث الأعظم من المجازر الجماعية، والتهديد بتكرار النكبة والتلويح بمخططات التهجير القسري، واستمرار الحصار الخانق، ليدفعهم إلى التحرك؟ يبدو أن في نظرهم، الطوارئ لا تعني إلا ما يهدد عروشهم، أما ما يهدد الأمة فهو أمرٌ قابلٌ للتفاوض والتأجيل.
ما معنى “طارئة” في قاموس الأنظمة العربية؟
في كل لغات العالم، تعني الطوارئ الاستجابة الفورية للأحداث التي لا تحتمل التأخير، وتعني اتخاذ مواقف عاجلة أمام الأخطار التي تهدد الشعوب، لكن في القاموس السياسي للأنظمة العربية، يبدو أن “طارئة” تعني “قابلة للمماطلة”، وتعني “اجتماعًا شكليًا لإرضاء الشعوب الغاضبة”، وتعني “خطاباتٍ خاوية لا تصنع تغييرًا حقيقيًا.”
ألم يكن القتل اليومي في غزة طارئًا بما يكفي؟ ألم تكن المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ سببًا لعقد اجتماعٍ فوري؟ أم أن “الطارئة” في نظرهم هي فقط حينما يواجهون تهديدًا لعروشهم، أو حين تتصل بهم العواصم الغربية لإصدار أوامرها؟
متى تكون لهم الكلمة العليا؟
إن الحكام العرب يملكون كل المقومات التي تجعلهم أصحاب الكلمة العليا، فهم يملكون الجغرافيا التي تجعلهم قلب العالم، والثروات التي تجعلهم قوى اقتصادية مؤثرة، والشعوب المستعدة لتقديم الغالي والنفيس للذود عن تراب بلادهم مهما كلف الأمر. لكنهم ارتضوا المذلة والإهانة والمهانة، وأبوا إلا أن يكونوا أدواتٍ في يد قوى الغرب الاستعمارية، يلتزمون بتعليماتها ولا يخرجون عن خطوطها الحمراء.
أما آن لهم أن يدركوا أن الدول لا تُحترم إلا بمواقفها، وأن الشعوب لا تنسى، وأن التاريخ لن يرحمهم؟ إلى متى سيظلون يُشاهدون المجازر في فلسطين بينما يقيمون العلاقات مع المحتل ويتحدثون عن “التنسيق الأمني”؟ هل يخشون غضب العدو أكثر مما يخشون لعنات الأجيال القادمة؟
السيسي وملك الأردن… مواقف هشة لا تنم عن عزة أو كرامة
أما المواقف الرسمية المصرية والأردنية، فلا تعدو كونها استعراضاتٍ خاوية، لا تسمن ولا تغني من جوع، محاولاتٌ مكشوفةٌ ومفضوحةٌ لامتصاص غضب الشعوب، بينما في جوهرها لا تحمل أي نية حقيقية لنصرة فلسطين. بياناتٌ تصاغ بعناية حتى لا تغضب الغرب، وتصريحاتٌ مكررة لا تجرؤ على تسمية المجرم باسمه، واتصالاتٌ شكلية لا تهدف إلا إلى كسب الوقت بانتظار ضوءٍ أخضر من العواصم الكبرى. أي دعمٍ هذا الذي لا يتجاوز حدود الخطابات، وأي تضامنٍ هذا الذي يحرص على ألا يتجاوز السقف المسموح به أمريكيًا وإسرائيليًا؟
السيسي، الذي يدّعي دعم القضية الفلسطينية، لم يجد غضاضةً في استقبال رئيس البرلمان اليهودي العالمي، وكأنه يستعرض ولاءه أمام الاحتلال بدلاً من مواجهته. هذا اللقاء لا يمكن فصله عن سياق المواقف المصرية المتخاذلة، حيث لم نرى حتى الآن أي إجراء “فعلي” حاسم ضد انتهاكات الاحتلال لاتفاقية كامب ديفيد المتواصلة والاعتداء على السيادة المصرية، بل لم يعلن السيسي عن إجراء عملي واضح ضد كارثة التهجير التي يلوح بها ترامب، وبدلًا من ذلك، أغرق المنصات ببيانات مراوغة ولقاءاتٍ جوفاء. أليس في هذا الموقف السلبي تمهيدٌ لتمرير أجندة خبيثة تستهدف اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم قسرًا؟ وإذا كان يرفض هذه المخططات حقًا، فلماذا لا يواجهها بحزمٍ بدلاً من سياسة التلكؤ والتسويف؟
أما الأردن، الذي يزعم أنه الحارس على المقدسات، فقد اكتفى بتحذيراتٍ مكررة وعباراتٍ دبلوماسية لا تحمل أي ثقلٍ سياسي. هل حماية الأقصى تقتصر على البيانات الجوفاء، أم تحتاج إلى قراراتٍ جريئة تُلزم الاحتلال بالتوقف عن عدوانه؟ وكيف لمن يرفع شعارات الدفاع عن فلسطين أن يبقى جزءًا من اتفاقياتٍ مع الاحتلال تضمن أمنه ولا تضمن حقوق الفلسطينيين؟ كل ما نراه ليس سوى محاولاتٍ متكررة لاحتواء غضب الداخل الأردني، وإعطاء انطباع زائف بأن شيئًا يُفعل من أجل فلسطين، بينما الواقع يشير إلى العكس تمامًا.
إن هذا التراخي العربي ليس عجزًا، بل تواطؤٌ مقصود، فلو أراد هؤلاء الحكام أن تكون لهم الكلمة العليا، لكانت لهم. لديهم كل الوسائل للضغط، اقتصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، لكنهم اختاروا أن يكونوا في موقع المتلقي للأوامر لا صانعها، وأن يكونوا منفذين لأجندات غيرهم بدلًا من أن يكونوا أصحاب قرار. الصمت ليس موقفًا، والتردد ليس استراتيجية، وما نراه اليوم ليس إلا مساومةً رخيصةً على دماء الفلسطينيين، بانتظار أن يقرر السيد الأمريكي ما الذي يجب فعله بعد ذلك.
وإن أكثر ما يُخشى في هذه المرحلة هو أن يكون هذا التأجيل جزءًا من مخططٍ خبيث لتصفية القضية الفلسطينية، عبر مزيدٍ من التسويف والمفاوضات التي لا تهدف إلا إلى شراء الوقت حتى يصبح الاحتلال أمرًا واقعًا لا يمكن مقاومته.
القضية ليست مجرد تأجيل قمة، بل هي تأجيل لحفظ الكرامة، تأجيل للعدالة، تأجيل للتحرك الذي كان ينبغي أن يكون منذ اللحظة الأولى للعدوان. وما أشد العار أن يظل الحكام العرب مترددين في الوقت الذي لم يتردد فيه الاحتلال لحظةً واحدةً في ارتكاب أبشع الجرائم!
إن التاريخ يُكتب الآن، وفي صفحاته السوداء تُسجل أسماء أناسٍ تواطؤوا، باعوا، خذلوا، وخانوا. أما فلسطين، فستبقى رغم كل شيء، لأنها لم تكن يومًا قضيةً تعتمد على هؤلاء العاجزين، بل هي قضيةٌ تنبض في قلوب الشعوب، والشعوب وحدها قادرةٌ على تغيير المسار.
اضف تعليقا