للكاتب / محمود المنصوري
مع انطلاق الجلسات التحضيرية للحوار الوطني السوري في مدينة حمص، تثار تساؤلات حول مدى قدرة هذا الحوار على تحقيق انتقال سياسي مستقر بعد سقوط نظام الأسد.
تعيش سوريا اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخها الحديث، إذ تجد نفسها أمام تحديات كبيرة تتعلق بإعادة بناء الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة هيكلة النظام السياسي بما يضمن عدم تكرار أخطاء الماضي.
رئيس لجنة الحوار الوطني، ماهر علوش، وصف هذه الجلسات بأنها “فرصة تاريخية للسوريين”، مشيرًا إلى أن البلاد لم تشهد حوارًا وطنيًا حقيقيًا منذ 75 عامًا.
ومع ذلك، فإن هذا الحوار يأتي في ظل انقسامات عميقة داخل المشهد السياسي والاجتماعي السوري، ما يجعله اختبارًا حقيقيًا لقدرة القوى المختلفة على التوصل إلى رؤية مشتركة لمستقبل البلاد.
الحوار الوطني: فرصة للتغيير
بعد سقوط نظام الأسد، باتت سوريا تواجه واقعًا سياسيًا جديدًا يتطلب إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع السوري، لكن هذا لا يمكن أن يتحقق دون حوار حقيقي يأخذ في الاعتبار جميع الأصوات الفاعلة.
السؤال الأهم هنا هو: هل سيكون هذا الحوار مقدمة لإعادة بناء الدولة على أسس عادلة وديمقراطية، أم أنه سيقتصر على توافقات سطحية لا تعالج جذور المشكلة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تعتمد بشكل أساسي على مدى شمولية الحوار واستقلاليته، وما إذا كان سيشمل جميع القوى السياسية والمجتمعية في سوريا، أم أنه سيكون مجرد وسيلة لإعادة إنتاج سلطة جديدة بنفس العقلية القديمة.
التحديات التي تواجه الحوار الوطني
رغم أن إطلاق هذه الجلسات يمثل خطوة أولى نحو إعادة الاستقرار، إلا أن هناك تحديات كبيرة قد تعيق تحقيق أهدافه، أبرزها:
1. تمثيل جميع الأطراف في العملية السياسية
لا يمكن لأي حوار أن يكون ناجحًا إذا لم يكن شاملاً، يجب أن يضم جميع التيارات السياسية والاجتماعية، من المؤيدين للنظام السابق، والمعارضة التقليدية، والقوى الثورية، والمجتمع المدني، وصولاً إلى ممثلي اللاجئين والنازحين، الذين عانوا لسنوات من الصراع.
إذا اقتصر الحوار على النخب السياسية فقط، فلن يكون قادرًا على بناء شرعية حقيقية لأي نظام سياسي جديد، وسيفشل في خلق إجماع وطني يسمح بإعادة بناء البلاد على أسس صلبة.
2. ملف العدالة الانتقالية والمحاسبة
من أكبر التحديات التي تواجه الحوار الوطني السوري هو كيفية التعامل مع إرث النظام السابق، خاصة فيما يتعلق بالانتهاكات التي حدثت خلال العقود الماضية.
يجب أن يتضمن الحوار آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية، بحيث يتم محاسبة المسؤولين عن الجرائم دون الوقوع في فخ الانتقام السياسي، مع ضمان حقوق الضحايا وتعويضهم، في الوقت نفسه الذي يتم فيه السعي لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية.
3. إعادة بناء مؤسسات الدولة
بعد سقوط النظام السابق، أصبحت مؤسسات الدولة السورية في حالة انهيار شبه كامل، سواء على المستوى الإداري أو الأمني أو القضائي، لا يمكن الحديث عن دولة مستقرة دون وجود مؤسسات قوية تعمل وفق مبادئ القانون والعدالة، وليس وفق المصالح الضيقة للفصائل السياسية أو القوى العسكرية.
لذلك، فإن الحوار الوطني يجب أن يتناول آليات إعادة هيكلة المؤسسات، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، بحيث تصبح مؤسسات وطنية وليست أدوات لخدمة طرف معين.
4. التدخلات الخارجية في المشهد السوري
لا يمكن إنكار أن الأزمة السورية كانت ساحة لصراع إقليمي ودولي، حيث تدخلت قوى عديدة لدعم أطراف مختلفة وفق مصالحها الخاصة، ومع سقوط النظام لا تزال هذه القوى تحاول التأثير على مستقبل سوريا، وهو ما يشكل عائقًا كبيرًا أمام أي حل وطني مستقل.
لذلك، يجب أن يتضمن الحوار الوطني آلية واضحة لحماية القرار السوري من التدخلات الخارجية، بحيث يكون الحل سوريًا خالصًا، يعكس إرادة الشعب، وليس مجرد تنفيذ لأجندات خارجية.
هل يمكن لهذا الحوار أن ينجح؟
رغم كل التحديات، فإن الحوار الوطني السوري يمثل فرصة نادرة يمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ البلاد، لكن نجاحه يعتمد على مجموعة من العوامل، أهمها:
- مدى استقلاليته عن الضغوط الخارجية، بحيث يكون حوارًا سوريًا خالصًا.
- قدرة الأطراف المختلفة على تقديم تنازلات حقيقية، وعدم التمسك بمواقف متطرفة.
- وجود ضمانات لتنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه، بحيث لا يتحول الحوار إلى مجرد وعود فارغة.
- التعامل بجدية مع الملفات الحساسة، خاصة العدالة الانتقالية وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
إذا تم التعامل مع هذه العوامل بحكمة، فإن سوريا قد تتمكن من تجاوز هذه المرحلة بسلام، أما إذا استمرت التجاذبات السياسية والمصالح الضيقة في السيطرة على المشهد، فإن البلاد قد تبقى عالقة في حالة من الفوضى لفترة طويلة.
الخاتمة: هل ستنجح سوريا في تجاوز أزمتها؟
لا شك أن سوريا تعيش لحظة مفصلية في تاريخها، حيث إن القرارات التي ستُتخذ خلال الفترة القادمة ستحدد مسار البلاد لسنوات طويلة.
الحوار الوطني يمكن أن يكون بداية جديدة لسوريا إذا تم استغلاله بشكل صحيح، لكنه يمكن أيضًا أن يكون مجرد خطوة أخرى في مسار طويل من التجاذبات والمماطلة إذا لم تكن هناك إرادة حقيقية للتغيير.
اضف تعليقا