في الوقت الذي تسود فيه حالة من الغموض حول مصير الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بدأت مؤشرات التعثر بالظهور في أكثر من ملف، أبرزها ملف النفط وإدارة المناطق الحيوية، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الطرفين في ظل انسداد الأفق السياسي وتزايد الضغوط الإقليمية والدولية.
النفط كورقة ضغط.. بداية التوتر
النفط كان – ولا يزال – أحد أبرز أوراق القوة التي تمتلكها “قسد” في وجه الحكومة السورية. ففي شباط/ فبراير الماضي، توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بتسليم “قسد” ما يصل إلى 15 ألف برميل نفط يومياً إلى دمشق، وهو ما اعتُبر حينها اختراقاً هاماً في جدار القطيعة بين الطرفين.
ووفق ما أُعلن، فإن الاتفاق تم توقيعه من قِبل الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد “قسد” مظلوم عبدي، مطلع آذار/ مارس الماضي، في محاولة لتهدئة التوترات وفتح باب أمام تسويات أوسع.
غير أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن هذا الاتفاق يتعرض للاهتزاز، فقد نقلت مصادر إعلامية “شبه رسمية” في دمشق أن “قسد” خفضت كمية النفط المرسلة إلى الحكومة إلى النصف، وهو ما فُسّر على أنه وسيلة ضغط من قبل “قسد” لإجبار دمشق على تقديم تنازلات في ملفات أخرى، لاسيما المتعلقة باللامركزية وإدارة المناطق ذات الغالبية الكردية.
ورغم نفي وزارة النفط السورية لهذا الانخفاض، إلا أن الوقائع على الأرض والتصريحات السياسية المتوترة ترجّح كفة حدوث تراجع في الالتزام النفطي.
الكاتب والسياسي الكردي علي تمي، علّق على الأمر قائلاً: “بطبيعة الحال ’قسد’ ستستخدم جميع أوراقها، بما فيها النفط، للضغط على الحكومة”، مضيفاً أن الملف يتجه نحو التصعيد لا الانفراج، خصوصاً في ظل التململ الشعبي في مناطق النظام، والذي يدفع دمشق للبحث عن إنجازات سياسية أو اقتصادية سريعة.
“اللامركزية” مجدداً.. مشروع مؤجل أم خطر داهم؟
إحدى أبرز النقاط الخلافية التي ظهرت إلى السطح مجدداً هي مسألة “اللامركزية” أو الفيدرالية، التي تُعد مطلباً رئيسياً للأحزاب الكردية و”قسد”، باعتبارها الصيغة الأنسب لإدارة مناطقهم التي يصفونها بـ”المحررة”.
عُقد مؤتمر للأحزاب الكردية في شمال شرقي سوريا، يوم السبت الماضي، وتبنّى بوضوح خيار “الدولة اللامركزية”، ما دفع دمشق إلى إصدار رد رسمي شديد اللهجة رفضت فيه أي “مشروع انفصالي يهدد وحدة البلاد”، وأكدت تمسكها باتفاق الشرع-عبدي كمسار وحيد للحل. الرئاسة السورية حذرت أيضاً من خطورة التصريحات والممارسات التي “تتعارض مع روح الاتفاق”، متهمة “قسد” بالانحراف عن المسار الوطني لصالح “أجندات خارجية”.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن دمشق تعتبر أي حديث عن الفيدرالية تهديداً مباشراً لوحدة الدولة السورية، وهو ما يفسر حدة الرد الرسمي. ويؤكد المحلل السياسي فواز المفلح أن “الخلاف حول شكل الحكم في سوريا يعكس الهوة المتسعة بين الطرفين، ولا يبدو أن هناك أرضية مشتركة في هذا الملف، مما يعقد التوصل إلى حلول وسط”.
كما أشار إلى أن “التوتر يخيم على المناطق التي كانت محل اتفاق، مثل أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وكذلك سد تشرين، ومناطق إنتاج النفط”، محذراً من أن المسار السياسي بين الطرفين يتجه نحو الانسداد في ظل هذه التناقضات.
الميدان يشتعل.. والسدود تُكشف
إلى جانب ملفات النفط والإدارة، عاد التوتر إلى الواجهة بعد أن أرسلت الحكومة السورية قوات إلى منطقة سد تشرين، شرق حلب، وهو ما اعتُبر رداً مباشراً على “مماطلة قسد” في تنفيذ بند مشترك يتعلق بالإدارة التشاركية للسد.
ووفق الاتفاق السابق، كان يُفترض أن يتم نشر قوات حكومية في محيط السد، مع بقاء “قسد” في داخله لضمان التشغيل المشترك، لكن الطرفين تبادلا الاتهامات بشأن عدم تنفيذ الالتزامات.
وتتزامن هذه التطورات مع تحركات عسكرية غير مسبوقة من قبل الطرفين، حيث أفادت تقارير محلية عن إرسال تعزيزات من الجيش السوري إلى محيط السد ومناطق أخرى قرب الخطوط الفاصلة بين الطرفين، وسط تحذيرات من انزلاق الوضع إلى مواجهات عسكرية محدودة، لا سيما في ظل وجود تصدعات في التنسيق الميداني بين الجانبين.
وتعزز هذه التوترات المخاوف من عودة شبح الحرب إلى المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، خاصة إذا ما ترافقت مع انسحاب أمريكي مفاجئ – وهو سيناريو يتردد بقوة في أوساط التحليل السياسي منذ شهور.
مستقبل الاتفاق.. ما الخيارات المتاحة؟
لا يبدو أن الاتفاق بين “قسد” ودمشق يسير في اتجاه التعافي، بل تشير جميع المؤشرات إلى أن العلاقة تشهد موجة جديدة من الفتور والتصعيد المتبادل. ورغم أن الطرفين يدركان أن التصعيد الكامل لا يخدم أياً منهما في المرحلة الحالية، إلا أن غياب الثقة، وتضارب الأجندات، وضغط البيئة الإقليمية، يجعل فرص استمرار الاتفاق ضئيلة ما لم تتدخل جهات دولية فاعلة لرعاية تفاهم جديد.
ويقول المحلل فواز المفلح: “الولايات المتحدة تبدو على مشارف انسحاب تدريجي من سوريا، وهذا سيضع ’قسد’ في موقف حرج، إذ إنها ستكون مجبرة على أحد خيارين: إما المواجهة مع الحكومة السورية وتركيا معاً، أو القبول بشروط دمشق”.
في المقابل، تُدرك دمشق أن استعادة السيطرة على شمال شرق البلاد بالقوة هو خيار مكلف ومجازفة محفوفة بالتحديات، خاصة في ظل الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة التنف ومناطق أخرى.
خلاصة
المشهد في شمال شرق سوريا يتجه نحو مزيد من الغموض، فالاتفاق بين “قسد” والحكومة السورية الذي وُقّع مؤخراً لم يصمد طويلاً أمام الخلافات العميقة بين الطرفين.
النفط واللامركزية هما عنوانا الخلاف الأبرز، لكن خلفهما تقبع قضايا أكثر تعقيداً تتعلق بالهوية والدستور والسيادة.
وفي ظل انسداد أفق التفاهم، يبقى السؤال: هل ينفجر المشهد من جديد، أم تفتح نافذة تدخل خارجي قد تعيد ضبط بوصلة العلاقة بين الطرفين قبل فوات الأوان؟ وهل تنجح “قسد” في تأمين مكتسباتها السياسية، أم أنها ستجد نفسها وحيدة في مواجهة تحالفات متغيرة لا ترحم؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة.
اقرأ أيضًا : علم سوريا الجديد يرفرف في الأمم المتحدة.. لحظة تتويج الشعب الثائر
اضف تعليقا