العدسة – معتز أشرف

في ضربة جديدة للتجربة الثورية في تونس، رفض مجلس نواب الشعب في بلاد بوعزيزي، مساء الاثنين، تمديد مدة عمل “هيئة الحقيقة والكرامة”، من مايو المقبل (تاريخ نهاية عملها) حتى ديسمبر المقبل، ليجهض الأمل مجددا في تصفية الانتهاكات التي فجرت ثورات الربيع العربي، ما يلقي بظلال قاتمة على المشهد العربي في ظل تصاعد الخريف العربي من جهة، وفي ظل المؤامرة المستمرة على الثورة التونسية والتي تقودها الإمارات بإشراف الديكتاتور محمد بن زايد، بحسب المصادر المتواترة والمراقبين، وهو ما نتوقف عنده لنرصد المخاض العسير لهيئة الحقيقة والكرامة الذي قد يكون خنق المولود المنتظر بسبب جهل الأطباء الذين يصدرون قراراتهم في غيبة الضمير أو هكذا يقول البعض.

انسحاب احتجاجي

“هيئة الحقيقة والكرامة” دستورية مستقلة، معنية بتنفيذ قانون العدالة الانتقالية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في عهد الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة (1956 ـ 1987)، وزين العابدين بن على (1987 ـ 2011)، وفترة ما بعد الثورة إلى حدود نهاية ديسمبر 2013، وتنظر الهيئة في 63 ألف ملف يتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان، وتنص المادة 18 من قانون العدالة الانتقالية الصادر في 2013، على أن “مدة عمل الهيئة حددت بأربع سنوات بداية من تاريخ تسمية أعضائها (مايو 2014)، قابلة للتمديد مرة واحدة لمدة سنة بقرار معلل من الهيئة، يرفع إلى المجلس المكلف بالتشريع قبل ثلاثة أشهر من نهاية مدة عملها، “ورغم ذلك فقد أطيح بها دون سابق إنذار، وجاء القرار بوقف تمديد عملها في الوقت الذي سلّمت فيه الهيئة أوّل حالات التعذيب وإساءة المعاملة إلى الدوائر المتخصّصة التي تم إنشاؤها وتدريبها للتعامل معها، وبالإضافة إلى الشهادات التي تم جمعها بالفعل، ما يعني أن الهيئة كانت ستحتاج إلى وقت لإعداد العديد من الحالات الأخرى وإحالتها إلى القضاء، وإلى مزيد من الوقت لإكمال التقرير النهائي، ولكنها الثورة المضادة، بحسب مراقبين.

وفي المقابل، كان الغضب التونسي واضحا حتى في قلب البرلمان، حيث انسحب نواب كتلة حركة النهضة (68 مقعدا) والجبهة الشعبية (15 مقعدا) والكتلة الديمقراطية (12 مقعدا) ولم يشاركوا في عملية التصويت احتجاجا على إجراءات انعقاد الجلسة العامة والتصويت.

وشهدت عملية التصويت، خلال جلسة عامة، بمقر البرلمان، التي استمرت إلى ساعة متأخرة من مساء الاثنين، رفض 68 نائبا لطلب التمديد في عهدة الهيئة، فيما تحفظ نائبان، ودون موافقة أي نائب (من أصل 70 حضروا التصويت)، وذلك بعد أن ألقت رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، خطابا من العيار الثقيل خلال الجلسة، اتهمت فيه جهات حكومية، بينها وزارتي الدفاع والداخلية، بـ”عرقلة” مسار العدالة الانتقالية في البلاد.

وقالت “بن سدرين” إن الهيئة واجهت “صعوبات كانت السبب الذي أدى إلى قرارها إضافة 6 أشهر لاستكمال أعمالها، ففي فبراير الماضي، قررت الهيئة تمديد عملها لغاية نهاية العام الجاري، دون طلب أية ميزانية إضافية، معللة ذلك بعدم التعاون الكافي معها من جانب “جزء كبير من مؤسسات الدولة”.

الضحية الأولى!

وبحسب تقرير حديث لخبراء مركز كارينجي للدراسات تحت عنوان “الحقيقة: الضحية الأولى”، وفي تعليق استباقي على جلسة التصويت، أكد المركز أن الجدل حول تمديد عمل الهيئة يكشف عن الخسارة الأوسع للحظة العدالة الانتقالية، فـ”هيئة الحقيقة والكرامة” التي دمّرتها نزاعات داخلية وهزّتها هجمات عامّة عنيفة، قد تكون قد أضاعت بالفعل فرصة تحقيق العدالة لضحايا القمع في ظل نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، موضحا أن قرار “هيئة الحقيقة والكرامة” طلب التمديد فقط حتى 31 ديسمبر نوعًا من التنازل، لأنّه كان يمكن أن يكون لسنة كاملة، حيث ستواجه صعوبة بالغة في إكمال عملها خلال الشهرين المقبلين، حتى ولو لم تكن تكافح الصراعات الداخلية والتحديات السياسية والمقاومة المؤسسية.

وأشار المركز إلى نقطة ذات ابعاد دولية قد تكون ذات دلالة في قراءة مشهد وقف التمديد في برلمان تونس، حيث أوضح أن رئيسة الهيئة أطلقت معركة من خلال الكشف عن وثائق يُزعَم أنّها تظهر التجارب النووية الفرنسية على الأراضي التونسية خلال السنوات التي كان فيها الرئيس الحبيب بورقيبة في السلطة ــ وهي حلقة مثيرة للاهتمام تاريخياً وذات حساسية سياسية، لكنّها تبدو بعيدة عن الاهتمامات المركزية لـ “هيئة الحقيقة والكرامة”.

وحسم المركز توقعاته قائلا: “قد تكون لحظة العدالة الانتقالية الحقيقية قد ولّت، إذ فقدت “هيئة الحقيقة والكرامة” الكثير من بريقها في وجه الانتقادات الإعلامية المتواصلة، والخلافات الداخلية، وتصوّرات التسييس، وتلاشي الاهتمام العام بالعدالة الانتقالية، كما لم تركز الاحتجاجات واسعة النطاق في وقت سابق من هذا العام على العدالة الانتقالية بل على القضايا الاقتصادية”!.

وأضاف التقرير أنه عندما أنشئت “هيئة الحقيقة والكرامة”، كان ثمة أمل كبير في أن يضع تقريرها النهائي معيارًا للعدالة والمساءلة الانتقالية في العالم العربي، أما الآن، فقد تواجه باللامبالاة من قبل جمهور منقسم بحدّة على أسس حزبية، ويتعرّض إلى الحملات بتغطية إعلامية ناقدة للهيئة، فيما يزداد استياؤه من السياسة الرسمية، لكن الإنهاء المبكر لأعمال “هيئة الحقيقة والكرامة” الذي يترك الآلاف من شكاوى الضحايا من دون حل، ويؤدي إلى إعاقة التقرير النهائي، يُعتبر فرصة مأساوية ضائعة لتونس.

سقوط نداء تونس!

التصويت بعيدا عن كونه سدد ضربة موجعة لحقوق الضحايا، إلا أنه -بحسب المراقبين- سدد ضربة مبكرة للحديث عن التحالفات بين حزبي حركة النهضة ونداء تونس، اللذين يستعدان للانتخابات البلدية، وجرت بينهما مناوشات إعلامية تتحدث عن افتراق، حيث يرى بعض المراقبين أن رفض مد عمل الهيئة مع انسحاب حركة النهضة واحدة من القضايا القليلة التي تفرّق بين الحزبين الرئيسيين، «النهضة» و«نداء تونس»، اللذين حكما لسنوات عدة ضمن ائتلاف كبير، حيث أيّد «نداء تونس» الذي يضم شخصيات من النظام الغابر وكان معاديا للعدالة الانتقالية، التصويت البرلماني، بينما يستثمر «النهضة»، وعلى الرغم من خياره الإستراتيجي بالانضمام إلى الحكومة، بشكل كبير في مشروع العدالة الانتقالية، إذ عانى عدد متفاوت من أعضائه، وخصوصًا النساء، على أيدي النظام القديم ويسعون لإنفاذ العدالة، وقد سعى مجلس شورى «النهضة» إلى مدّ الجسور، داعيًا الهيئة إلى إنهاء عملها ضمن فترة زمنية محدّدة، مع الإصرار على أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية والحوار.

حزب نداء تونس بعد تصويت مجلس نواب الشعب على قرار عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، توجه إلى دغدغة المشاعر الثورية، رغم سقوطه المدوي في دار البرلمان، وذلك بحسب المراقبين، لتفويت الفرصة على حركة النهضة التي انسحبت احتجاجا على ما تم، وأوضح في بيان له أنه “يحترم مسار العدالة الانتقالية كمسار جوهري متكامل لا يمكن اختزاله أو تلخيصه في هيئة الحقيقة والكرامة ولا في الدور المختل والمشوه الذي لعبته رئيسة الهيئة التي تتحمل مسؤولية فشل عمل هيئتها قبل غيرها، وذلك بشهادة أغلبية الأعضاء المنتخبين لهيئة الحقيقة والكرامة”، بحسب زعمه، لكنه استكمل خطابه بسقوط فاضح في صراع مع رئيسة الهيئة التي كشفت عيوب وزارته الحاكمة ودفاعه عن الماضي الذي قامت ضده الثورة التونسية، قائلا: “وصلت انحرافات رئيسة هذه الهيئة حدودًا غير مسبوقة في تحويل مسار العدالة الانتقالية إلى عناوين تفرقة بين التونسيين وفتنة وطنية خطيرة إلى حد التشكيك في استقلال البلاد ورموزها المؤسسين، وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة”، فيما زعم الحزب أنه بعد التشاور مع بقية الكتل البرلمانية سيتقدم بمشروع قانون أساسي لمواصلة مسار العدالة الانتقالية، لكنه لم يحدد أجلا، في إشارة بحسب البعض إلى تأجيله إلى أجل غير مسمى!.

وفي المقابل، أكد نور الدين البحيري رئيس كتلة حركة النهضة عقب التصويت أن “الموضوع لا يتعلق بنقاش قرار الهيئة، إنما أراده مكتب المجلس الذي يريد بقيادة البعض محاكمة خيار العدالة الانتقالية ومسارها فيما يريد البعض تصفية حسابات مع رئيسة الهيئة، بينما يريد البعض الثالث تصفية حسابات شخصية”.

 الخلافات بين القطبين واضحة في الصورة التي جمعت راشد الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة، الاثنين، مع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، بقصر قرطاج، حيث ناقشا -بحسب الغنوشي- الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد، وخاصة المشاكل المتعلقة بمسار الانتقال الديمقراطي والتجاذبات التي شهدها مجلس نواب الشعب مؤخرا، مؤكدين على ضرورة التهدئة ومواصلة سياسة الحوار دون إقصاء للتوصّل إلى توافق كفيل بتجاوز الصعوبات القائمة، ولكن فيما يبدو أن رصاصة الفراق قد انطلقت في ديار بوعزيزي، بين مساري الثورة والثورة المضادة، والذي كان أول آثاره الإطاحة بهيئة كانت توثق جرائم نظامين أوديا بحياة شعب أراد الحياة فاستجاب له القدر، ولكن يحاول البعض الآن مواجهة إرادة القدر!