العدسة – معتز أشرف
في مطالعة دورية لخبراء مركز “كارينجي” للدراسات حول قضايا تتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن، تناول الخبراء الوضع التركي في سوريا بعد تحرير عفرين من ، مؤكدين أن 3 اعتبارات سياسية وانتخابية تقودهم أجندة قومية واضحة، هي أساس تحرك تركيا ضد ما يهددها، خاصة في شمال سوريا، فيما اعتبروا أن الخطوة المقبلة في منبج هي الأخطر، ولا يستحق أحد الجزم بما يحدث فيها.
اعتبارات سياسية
كمال كيريشي، مدير برنامج تركيا في مركز الولايات المتحدة وأوروبا في مؤسسة “بروكينجز” في واشنطن، أوضح في المطالعة الدورية التي وصلت (العدسة)، أن الاعتبارات السياسية المحلية، على مشارف سلسلة انتخابات وطنية حاسمة، شكلت الدافع الأساسي وراء عمليتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” التركيتين، فالتصميم على الفوز في هذه الانتخابات يدفع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تبنّي أجندة قومية، والتودّد إلى ائتلاف من الفرقاء القوميين في تركيا الذين يمقتون التطلعات الكردية والوجود الأمريكي في سوريا (ولا يحبّذون كثيرًا الوجود الروسي والإيراني)، موضحًا أن هذه السياسة تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف، هي: منع الأكراد السوريين بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي من إقامة دولة مستقلة أو منطقة حكم ذاتي على طول الحدود التركية، ورسم معالم سوريا الجديدة، أو أقلّه زاوية منها، بما يتلاءم مع التفضيلات السياسية لأردوغان، وخلق ظروف مؤاتية لعودة نحو 3.5 ملايين لاجئ سوري، من أجل الحد من الاستياء الشعبي المتنامي منهم على مشارف الانتخابات.
وأوضح “كيريشي” أنه يشك كثيرًا في ضم تركيا الأراضي التي تسيطر عليها الآن في سوريا، فالمعروف عن مصطفى كمال أتاتورك أنه طلب قبل وفاته من كبير دبلوماسييه، نعمان منمنجي أوغلو، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وتجنّب المغامرات العسكرية الساعية إلى ضمّ الأراضي، حيث أتاحت هذه التعليمات لتركيا أن تبقى بمنأى عن فاجعة الحرب العالمية الثانية، وكانت أيضًا، في العام 1990، السبب وراء استقالة رئيس أركان الجيش آنذاك، الجنرال نجيب تورومتاي، احتجاجًا على سعي رئيس الوزراء تورغوت أوزال، إلى الانخراط في التدخل الأمريكي ضد قوات صدام حسين التي اجتاحت الكويت، ومن المعلوم في الأوساط التركية عمومًا أن حدثًا مماثلاً هو الذي دفع الجيش التركي إلى مقاومة ضغوط سياسييه من أجل التدخل في سوريا، قبل أن تُجهِز المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016 على التأثير التقليدي لهذا الجيش.
أجندة قومية
من جانبها، ترى جونول تول، مديرة مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وأستاذة مساعدة في معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن، أن العملية العسكرية التركية في سوريا انطلقت، بشكل أساسي، بدافع تخوّف أنقرة من النزعة الانفصالية الكردية، فقد شنّت تركيا العملية بهدف كبح تقدّم المجموعات الكردية السورية، ما تعتبره أنقرة تهديدًا لأمنها القومي حيث يسعى أردوغان إلى تطبيق أجندة قومية تركية مناهضة للأكراد في سوريا، وليس العمل على تنفيذ مشروع عثماني جديد.
وقللت جونول تول من مزاعم النقّاد ضد أنقرة بامتلاك تطلّعات استعمارية جديدة في شمال سوريا، مشيرة إلى أنه – من حيث الظاهر- قد يكونون محقّين في جانب معيّن، ففي الأراضي التي استولت عليها تركيا من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، الدور التركي يتنامى باطّراد حيث يتعلّم الطلاب اللغة التركية ويتولّى أتراك إدارة المستشفيات، وتشير معطيات عدّة، مثل إشارات السير التركية، وقوات الشرطة المدرَّبة على أيدي أتراك، ومكاتب البريد التي بناها أتراك، كما أنه من المعروف عن الجيش التركي أنه يمكث في الأراضي التي يتدخّل فيها خارج حدوده، لكنه قد يجد أن الأمر أشدّ صعوبة في الوقت الراهن، مضيفًا أنه إذا كان قد أتيح لتركيا التوغّل عسكريًّا في شمال سوريا، فالفضل في ذلك يعود إلى حصولها على ضوء أخضر روسي، لكن غالب الظن أنه لا روسيا ولا نظام الأسد ولا إيران ستقبل، على المدى الطويل، بالوجود العسكري التركي هناك، ومما لا شك فيه أن الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى إلى تعزيز دائرة النفوذ التركية في شمال سوريا، لكن من المضلِّل وصف ذلك بأنه تجسيدٌ للنزعة “العثمانية الجديدة”، فمصطلح “العثمانية الجديدة” يشير، في استخدامه الأصلي، إلى رؤية تتجاوز حدود الدولة-الأمة، وتكون متصالحة مع الهوية التركية متعدّدة الإثنيات، وتسعى هذه النزعة إلى استيعاب الأكراد بدلاً من مواجهتهم.
تقدم خطير!
أما هنري ج. باركي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي، وباحث أول في مجلس العلاقات الخارجية، فيرى أن البقاء التركي الذي يصفه بـ”الاحتلال” في شمال سوريا لن يكون دائمًا، لكنه سيستمر إلى حين إحراز تقدّم حقيقي باتجاه إيجاد حل للحرب الأهلية السورية، وإلى أن تصبح التكاليف الناتجة عنها أكبر من القدرة على تحمّلها، مشيرًا إلى أن الوضع التركي في شمال سوريا جاء على مرحلتين، حيث أدّت المرحلة الأولى، تحت رعاية عملية “درع الفرات”، إلى سيطرة تركيا على منطقة تحدّها بلدات أعزاز والباب وجرابلس، حيث فرضت الحكومة التركية سيطرة إدارية مباشرة على المنطقة، وعيّنت مسؤولين يحصلون على المؤازرة من محافظة غازي عنتابو، بالمثل سوف تفرض سيطرتها على عفرين، وتُعيِّن قائمًا ومسؤولين آخرين، ما يشكّل استثمارًا واسع النطاق، على المستويَين السياسي والاقتصادي، لكن سوف تولّد تعبئة مقاتلين جهاديين في إطار “الجيش السوري الحر” من أجل طرد الأكراد، مشاكل لتركيا نظرًا إلى أن هؤلاء المقاتلين متشدّدون جدّاً وغير منضبطين، ومن شأن إدارة هؤلاء العناصر الجامحين، فضلاً عن المقاومة المحتملة من ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردي، وفي نهاية المطاف، من الوكلاء المدعومين من النظام السوري وإيران، أن تُحوّل البقاء التركي إلى مجهود باهظ التكلفة، لكن لا يستطيع الرئيس رجب طيب أردوغان أن يُقاوم إغراء تغيير الحدود، وقد تشكّل هذه الجهود الآيلة إلى فرض مسؤولين في مواقع معيّنة، محك اختبار، لكن في النهاية، قد يمنع العبء السياسي والعسكري على حدٍّ سواء، الأتراك من مواصلة المسار نفسه.
مسار منبج!
من جانبه، يرى مارك بييريني، باحث زائر في مركز “كارنيجي” أوروبا، بروكسل، أنه من الصعب تصوّر أن تُقدِم تركيا على ضم منطقتَي عفرين وجرابلس اللتين تسيطر عليهما الآن، على الرغم من الإشارة إلى الحقبة العثمانية من حين لآخر، وبدلاً من ذلك، تبدو أنقرة مصمّمة على مواصلة البقاء فيهما: أولاً لممارسة سيطرة عسكرية واستبدال الهيمنة السابقة لوحدات حماية الشعب الكردية، وثانياً لهندسة تغيير سياسي يحرص على أن تكون الهيكليات المحلية منسجمة مع السياسات التركية وما دام هذا المسار السياسي يناسب موسكو، سيشقّ طريقه بسلاسة نسبياً.
وقال: “السؤال الحقيقي المطروح هو: ماذا سيحدث في منبج وشرق نهر الفرات، حيث تتواجد القوات الأمريكية إلى جانب الأكراد السوريين؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بشأن ما سيحدث هناك، فالتصريحات النارية الصادرة عن أنقرة موجَّهة نحو السياسة الداخلية، وواشنطن تتأرجح بين وجود عسكري معزَّز وانسحاب كامل، أما موسكو فقد منحت ضمانات سياسية إلى الأكراد السوريين منذ سبتمبر 2015، فيما تحرص بعض بلدان الاتحاد الأوروبي (ومن ضمنها فرنسا) على الحفاظ على الهوية الكردية السورية وهو مسارٌ محفوف بالعقبات”.
اضف تعليقا