يَبدأ الحُبُ يتسللُ إلينا مُنذُ أن كنا نُطفةً فى رحمِ أمهاتنا ، نحيا داخلَ الأرحام فى ظُلماتٍ ثلاث وَيظلُ الحبُ هو الضياء الوحيد فى ذلك الظلامُ الموحش ، ثُم نرضعهُ مع حليبِ أمهاتنا فَيكبرُ فينا الحب ونكبر معهُ ، نظلُ نرتشفُ من كأسِ الحُبِ يومًا بعد يوم وَلم نمل من ذَاكَ الشرابُ أبدًا.
نفتحُ عيوننا على رؤيةِ الأهلِ والأقارب والصحبة ، نتعلقُ بهم ويتعلقون بِنا ، يتخذونَ من قلوبنا سكنًا لهم وكذلكَ نحنُ نتخذُ من قلوبهم سكنًا لنا . نَعتقد أن وجودهم سرمدىٌ أبدى يُمكن لأى شئ أن نفقدهُ ولا نفقدهم هم ، أو لنكن منصفين لَم نكن ندرى ماهيةُ الفقد وَلا نعرف لهُ سبيلًا ، إلى أن نصطدم بالواقعِ فَتهوى قلوبنا وَنهوى نحن معها.
وَأولُ فراقٍ وألمٍ عرفتهُ فى حياتى هو فِراق خال أبى رحمهُ الله ( جدى رفعت ) ، كَان قريبًا من قلبى بشكلٍ غريب رغم أنى لم أزوره إلا بِضع أسابيع من كل عام وَلكن تلك الأسابيع القليلة كانت كفيلة لِزراعةِ بذور حبى له التى سُرعان مانمت ، فقد كان رحمه اللهُ صديقًا لى فى طفولتى ، كان طيب القلبِ حقًا ،يحضر لى كل يومٍ ما أشتهيه من ألعابٍ وحلوى ، كَان يفعل ما بوسعهِ حتى لا تسقط دمعةً من عينى ، كما كَان من أكثر المشجعين لى على حفظِ القرءان الكريم ، و كم كانت فرحتهُ عارمة حينما أحصل على الدرجة النهائية فى إمتحانات الروضة ، فرحتهُ تُشعرك بأنى قد حققت إنجازًا هائلًا وَكأننى حصلت على جائزة نوبل ! ظلَ داعمًا لى حتى آتى ذلكَ اليوم الذِى تعلمتُ فيهِ أنهُ ثمة نهاية لكلِ شئ ، نهاية سيلقاها المرء حتمًا ، فتلك النهايةُ لا مفر منها مهما طالت الأيام.
وَجدتُ أمى ترتدى عباءةً سوداء ، وكذلكَ كل النسوة اللواتي تجمعن فى الدار ، منهن من يبكين ومنهن من يصرخن بكل ما أوتين من قوة ، أسرعتُ إلى أمى أسألها عن سبب ذلك البكاء وهذا العويل فإذا بها تهمس بصوتٍ تقطعهُ دموعها المنهمرة ” لقد توفى جدك رفعت ” ، سألتها ما معنى أنه توفى ؟ ، فأخبرتنى أى أنهُ رحل عنا ولم يعد بإمكاننت أن نراهُ مُجددًا ، وقعَ كلامها علىّ كالصاعقة ، تَهشم قلبى الزجاجى فى ضلوعى ، وسقطت الدموعُ من عينى كما السيل ، ومازالت صورتهُ وهو يحمل الألعاب بوجهٍ مبتسم وقلبٍ نقى صافى محفورةً فى قلبى . كرهت الموت حينها وتمنيتُ لو ألقاهُ فأقتله وأسلب منه قلبه كما سلب منى سعادتى وفرحى وَنغص علي حياتى.
كل مِنا له حكاية عن أول مرةٍ عرفَ فيها ماهيةُ الفقدِ والموت ، كُل منا تهشم قلبهُ فى صغره ، تمر الأيام وتتوالى السنون ومازلنا نتابعُ إرتشافَ كأس الحُب الذى لم ينتهى بعد ، تعلقنا بالكثير من أهلٍ وجيران وأصدقاء وأحباب ، ومع مرور الوقت يَكبر حبهم بِداخل قلوبنا حتى ظننا من فرط حبنا لهم أننا بحاجةٍ إلى قلوبٍ عدة لنوفيهم حُبهم كما ينبغى أن يكون.
كنتُ أحسب أن الفقد والفراق لا يكونُ إلا بالموت ، إلى أن إكتشفت طرقٌ عدة يسلكها الفراق ليؤذى قلوبنا وَيعبثُ بِها ، فتارةً يُسافر أحد الأقرباء للإستقرار خارج البلاد ، وأخر قد يعيش فى نفس البلد وَلكنه مشغولٌ بعملهِ وظروف حياته ، صديقةٌ ترحل وأخرى نرحل نحنُ عنها ، جيرانٌ ينتقلون إلى مسكنٍ أخر ، وأخرون يعيشون معنا ولكن تغير شئ ما لم ندركهُ ولم يدركونه بعد ، وغير ذلك من أساليب الفراق والبعد.
حياتنا أشبه ما تكون بحافلة كبيرة تحمل الكثير من الركاب والمسافرين ، فى بادئ الأمر تشعر أنك غريب ثُم ما تلبث أن تمتزج مع رفاقك الراكبين وكأنك تعرفهم مُنذ أمدٍ ، تتبادل معهم أطراف الحديث فيعجبون بحديثك وَكذلك أنت تُعجبُ بحديثهم ، وَمع كل عبارةٍ يتفوه بها الواحد منهم يعتلى درجةً فى قلبك ، فتغدوا رفاقًا حقًا ، وَلكنّك لا تدرى يا مسكين أن تلك الدرجات التى يعتليها أحدهم فى قلبك لها ضريبةٌ لا بُد من دفعها يومًا ، والأن حان موعد دفع تلك الضريبة وسداد أول دين على تلك المضغة التى بين ضلوعك ، لقد حان موعد نزول أحد رفاقك من الحافلة ، فَإذا بِكَ تودعه بقلبٍ مكسورٍ عاجز كل العجز عن صنع أى شئ لا يملكُ من الأمر شئ سوى أن يسأل الله أن يربط عليه برباط الصبر ، وفى لحظةِ نزول رفيقك يصعدُ آخرًا وتُعادُ الكرةَ مرةً أخرى ، ينزل أحدهم ويصعد الأخر ، إلى أن يحينَ دورك أنت فتنزل وترحل مثل من سبقوك ، ولم يبقى منك سوى أثرك الذى تركتهُ طيلة رحلتك.
عَجيبةٌ تِلكَ الحياةِ تجمعنا بأناس كثيرون وَتكسر قلوبنا أكثر ، وَلكن هذا هو حال الدنيا لا شئ فيها يدوم ، ولا أحد باق فيها ، كل شئ هالكٌ إلا وجه الله ، وكل حُبٍ فانٍ فيها إلا حُب الله ، وكلٌ قلبٍ سينكسر مرارًا وتكرارًا إلا ذاكَ القلبُ الذى تعلق بربه جل فى علاه.
اضف تعليقا