العدسة _ منصور عطية
بينما يعيش المغرب أزمة اقتصادية، ربما تكون سلطاته غير مستعدة لمواجهة تصاعد الأحداث على المستويات السياسية والاجتماعية على نحو قد يفقدها السيطرة على الموقف.
في هذا السياق تبدو الأحكام المخففة مع وقف التنفيذ بحق ناشطي حراك مدينة “جرادة” المغربية، يضاف إليها خشية السلطات التصعيد في أزمة الحراك الريفي على وقع ما تشهده محاكمة زعيمه ناصر الزفزافي.
مع إيقاف التنفيذ
المحكمة الابتدائية في وجدة، أصدرت قبل أيام أحكامًا بالسجن تتراوح ما بين 4 أشهر وعام مع إيقاف التنفيذ، بحق 7 نشطاء على صلة بأحداث ما بات يعرف بحراك “جرادة” الذي اندلع قبل نحو 5 أشهر.
وعلى الرغم من أن الأحكام موقوفة التنفيذ، ما يعني تلقائيًّا إخلاء سبيل النشطاء، إلا أن المحامي “عبدالحق بنقادة” من هيئة الدفاع، أعلن عزمها استئناف تلك الأحكام.
وقال في تصريحات صحفية: “إن المحكمة قضت بالإدانة في الوقت الذي أثبتت فيه هيئة الدفاع للمحكمة أن الملف مخالف للمسطرة الجنائية (القانون) من ناحية الشكل، وخال من أي إثبات ضدهم (المدانون) من ناحية الموضوع”.
وأضاف أن “القرص المدمج والصور الموجودة بالملف لا يوجد بها أي دليل يثبت تورطهم، كما أنهم أنكروا المنسوب إليهم بمحضر الضبط القضائي وأمام وكيل الملك (النيابة العامة)”.
وعلى الرغم من عدم تبرئة المحكمة للنشطاء المتهمين وإصدار أحكام بإدانتهم، إلا أن الأمر يحمل صبغة الموائمة السياسية من قبل السلطات، بهدف تهدئة الشارع وامتصاص الغضب الذي لا تزال جذوته مشتعلة في نفوس أهلي “جرادة” إلى الآن رغم الهدوء النسبي على أرض الواقع.
وللاقتراب أكثر من المقاربة السياسية التي سعت لها السلطات المغربية في الأحكام، يكفي مجرد تخيل صدور تلك الأحكام بإدانة واضحة تقود إلى سجن النشطاء فعليًّا، وما قد يترتب على ذلك من اشتعال موجة احتجاجات مصحوبة بعنف لا تُحمد عقباه.
السلطة القضائية المغربية، التي تخضع بشكل أو بآخر لإرادة الملك، ربما سعت عبر تلك الأحكام إلى تصحيح أخطاء الأجهزة الأمنية المتراكمة في التعامل مع أزمة “جرادة”، فضلًا عن الانتهاكات التي تواجهها الدولة بإهمال المدينة منذ سنوات.
“الزفزافي” يضرب من جديد
في سياق ليس ببعيد عن حراك مدينة جرادة، تتواصل جلسات محاكمة “ناصر الزفزافي” قائد حراك الريف المغربي، والتي تشهد كل منها تصريحات نارية وتمسكًا بالمواقف يبديه الرجل.
مساء أمس الثلاثاء، حيث كانت أحدث الجلسات أمام محكمة الجنايات بالدار البيضاء، قال “الزفزافي”: إن “من يتهمون معتقلي الحراك بزعزعة الاستقرار يريدون التغطية على فشلهم في تدبير السياسات العمومية بالبلاد”.
وعن واقعة مقاطعته لخطبة الجمعة في أحد المساجد، أكد “الزفزافي” أنه دخل المسجد بعد أن انسحب عدد كبير من المواطنين، مشيرًا إلى أنه لو جاز اعتقاله لهذا السبب، فكان الأحرى أيضًا أن يتم اعتقال جميع المواطنين بربوع إقليم الحسيمة الذين انسحبوا من المساجد احتجاجًا على الخطبة، على حد تعبيره.
الجلسة السابقة في 16 أبريل الجاري، لم تكن أقل سخونة، حيث شهدت اتهام “الزفزافي” لمن أسماهم “بعض المسؤولين”، بأنهم “سيجرون البلاد إلى الهاوية”.
وعن الاتهامات الموجهة له بالسعي إلى الانفصال عن المغرب، قال: “مطالب الريف اقتصادية واجتماعية وثقافية، أما أسطوانة الانفصال فلن يصدقها أحد”.
وذكر “الزفزافي” أن الريف “يعاني ويلات الحصار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”، وأنه بدلًا من قيام الدولة “بخطوة إيجابية نحو الريف تُحاصرنا”، منتقدًا المقاربة الأمنية التي انتهجتها وزارة الداخلية في تعاطيها مع الحراك بالمداهمات العشوائية للمنازل، واعتقالات شملت أطفالًا وذوي احتياجات خاصة، بحسب وصفه.
واستدعى “الزفزافي” أزمة الصراع الدائر على الصحراء الغربية بين الدولة المغربية وجبهة البوليساريو، قائلا: “لا يمكن للدولة أن تنتصر على خصوم الوحدة الترابية إذا لم تراجع موقفها من الريف وتقوي الجبهة الداخلية”.
واتهم الشرطة -في أولى جلسات محاكمته- بتحريف أقواله، معتبرًا تلك المحاكمة “سياسية بامتياز”، واعتقلت السلطات المغربية “الزفزافي” قبل نحو عام بعدما قاطع خطبة جمعة معادية لحركة الاحتجاجات التي تعرف بـ”حراك الريف”، والتي هزت المنطقة الواقعة في شمال البلاد، العام الماضي.
عوامل التشابه بين منطلقات ودوافع حراك كل من “جرادة” و”الريف”، يجعل من غير المستبعد أن تنتهج الدولة نهجًا موازيًا للتهدئة في الريف، كما حدث مع الأحكام القضائية بحق نشطاء “جرادة”.
فلا يستغرب أحد إن قادت محاكمة “الزفزافي” -آجلا أو عاجلًا- إلى عفو ملكي يصدره العاهل المغربي عنه وعن باقي المحتجزين على ذمة القضية، ليضع الحرك الريفي أوزاره بخطوة ملكية لا يمكن استثناؤها من التوقعات المستقبلية لسير القضية.
تزامن “جرادة” و”الريف”
تفجرت أحداث “جرادة”، في نهاية ديسمبر الماضي، إثر وفاة شقيقين في منجم للفحم كانا يعملان فيه، كما توفي شخص ثالث بعد ذلك بأسابيع.
ويقول النشطاء إن العشرات توفوا في ظروف مزرية لاستخراج الفحم بطريقة عشوائية من مناجم أعلنت الدولة نضوبها عام 1998 وإغلاقها، فيما يطالب سكان “جرادة” ببديل اقتصادي عن إغلاق مناجم الفحم التي تعتبر مصدر رزقهم الأساسي.
واستمرت الاحتجاجات عدة أيام، وقدم المحتجون عدة مطالب؛ بينها ضمان بدائل اقتصادية لتشغيل الشباب، وتنفيذ ما تعهدت به الدولة عقب إغلاق المنجم، إلى جانب فك العزلة عن المدينة عبر فتح طرق، ومراجعة فواتير الماء والكهرباء، وإنشاء مدارس وملحقة جامعية، ودعم الفلاحين الصغار بالمحافظة، وتعزيز البنية التحتية، وتحسين المرافق الخدمية.
وأعلنت السلطات في 16 يناير 2018 خطة طارئة لتحقيق مطالب السكان، وتهدف الخطة -بحسب وكالة الأنباء المغربية الرسمية- إلى “الاستجابة للمطالب العاجلة لسكان إقليم جرادة”، وتشمل فاتورتي الماء والكهرباء، وإيجاد فرص عمل، ومراقبة استغلال مناجم الفحم المتهالكة، وتدهور البيئة وتعزيز خدمات الصحة.
كما تشمل الخطة مشروعات من شأنها توفير فرص عمل، بينها إنشاء محطة حرارية خامسة بجرادة، ومنح أولوية التوظيف لقاطني المنطقة، لكن من دون تحديد موعد بدء تنفيذ تلك الخطة، الأمر الذي لم ينجح في وقف الاحتجاجات.
وتشهد منطقة الريف شمال المغرب، اضطرابات وغضبًا شعبيًّا مستمرًّا منذ أوخر 2016، وكانت شرارة الغضب الأولى مقتل بائع السمك، محسن فكري، مطحونًا في شاحنة نفايات، عندما أراد استعادة سلعته التي صادرتها الشرطة منه.
بادرت السلطات المغربية إلى التهدئة واحتواء الحادث الفظيع، فأرسلت وزراء وكبار المسؤولين، إلى مدينة الحسيمة، وأصدرت المحاكم إدانات في حق الضالعين في مقتل “فكري”، ولكن يبدو أن الأمور كانت قد أفلتت من يد المسؤولين، وعائلة الضحية.
وتبنى الشارع القضية، في مسيرات ومظاهرات تجاوزت مطالب القصاص والعدالة، إلى العزلة والبطالة والفقر والخدمات الاجتماعية التي تفتقر إليها منطقة الريف، التي تعد من أفقر المناطق في المغرب.
وحاول العاهل المغربي الملك محمد السادس فك العزلة عن الريف، إذ أعلن مشاريع لتطوير شمال البلاد، وقرب منه مسؤولين من المنطقة، ولكن يبدو أن الاستثمارات التي أعلن عنها اقتصرت على المدن الكبيرة ولم تصل إلى القرى والمناطق الأكثر عزلة.
وكان ناصر الزفزافي، الشاب العاطل عن العمل، يتحدث باسم الأهالي ويعبر عن معاناتهم، وهو يقاطع خطيب الجمعة في مسجد مدينته، ليتحدث عن ظروف المعيشة الصعبة والبطالة والفقر وغيرها من الآفات التي يعاني منها أهل الريف.
اضف تعليقا